كافة الحقوق محفوظة © 2021.
يومياتي
يومياتي
نيفين بيضون-اريزونا
الخريف الأريزوني بدأ متأخرًا هذا العام.. مسني الشوق الكبير لزيارته، بعد فصل الصيف الحار الطويل. أوصلت ابني إلى المدرسة وعزمت على المشي في هذا الصباح الهادئ النسمات، حيث الخريف يُلقي بظلاله على الطبيعة. الساعة تميل إلى السابعة صباحًا، لم أشأ أن أذهب إلى الحديقة المجاورة، آثرت البحث عن مكانٍ جديدٍ. سرعان ما توقفت السيارة عند حديقة في الزقاق البعيد عن بيتي.
ترجلت على عجل لاستكشف المكان. إذ لم تكن الحديقة كبيرة للوهلة الأولى. أنهيت الشطر الأول منها، حتى تبين لي أن في الخلف مساحات شاسعة، أرض منبسطة تُغري بارتيادها. كانت نسمات البرد الخفيفة تلفح وجهي بنعومة. تشعرني بالانتعاش، تحتضنني بحنان. تدفقت شلالات الفرح بين جنبات روحي، أخذت قدماي تدفعاني بقوة، تتراقصان فرحًا، ومُحياي يعلوه رطل من البهجة. حيث أن هذه هي المرة الأولى التي أمشي فيها بعد التوقف التام عن الرياضات بانواعها هذا العام…عرقوب أخيل أجلسني حبيسة السرير والبيت. وتر أخيل أسقطني- العرقوب لمن لا يعرف- هو ذاك الوتر خلف الكعبين بين مفصل القدم والساق، يعجز المرء عن الجري أو حتى المشي، عندما يتراخى وتر أخيل الليفي الرابط بين عضلات المرء في ربلته إلى عظمة الكعب- يشتد عليك الوجع ويلمع بُرقه في أسفل الكاحل الخلفي، وينشأ فراغ في موضع التقلص يجعل الألم أشد وأعنف. كنت أتطلع بلهفة عارمة للعودة إلى الجري، ولكن هيهات هيهات. حسبي الآن المشي ولله الحمد من قبل ومن بعد.
على طول الطريق الممتد كانت الأشجار الوارفة تلف المكان، الحشيش هاجعًا تحت وطأة الجاذبية.
تباطأت خطواتي وارتخت عضلاتي المشدودة، كلما أوغلت في المكان. كان هناك شجرة عملاقة، عتيقة، ساكنة تبعث في روحي الطمأنينة والأمان. وكأن السماء لفظتها من الجنة. أنشأت قوسًا كبيرًا ممتدًا ذات اليمين وذات الشمال. جعَّلتُ أتأملها، لجلدها، وتحملها القيظ الأريزوني. طولها الذي كساها مهابة عجيبة، خاصة عندما بدأ ضوء الشمس يمر من خلالها. كانت فريدة بين قريناتها! توقفت طويلاً وتذكرت ما وصفه رب العزة عن شجر الجنة”وظلٍ ممدود” ها هي تعطي الظل. ” فأنبتنا به حدائق ذات بهجة”وها هي تدخل البهجة والسرور إلى قلبي.
“والنجم والشجر يسجدان” اهتز قلبي، وارتعدت مفاصلي للصورة البيانية. إذا كان هذا حال شجرة الدنيا، أنى لي أن أرسم تلك الصورة في خيالي! مضيت في طريقي لم يكن هناك سواي، أعبر البساتين فأراها تتلون خجولة. نسمات الخريف المُضمخة بالرطوبة تُرَّغب على المشي. لمسافات أطول!قدمت بعقل مزدحم بالأفكار. تارة من خيوط أنفاسي انسج أحلامي من شراييني عشًا يدفئ ليلة الخريف. وتارة أخرى كنت أسقط في فخ الشرود. للخريف بصمات وشهود في كل خطوة. كنت أسمع خشخشة أوراقه تتكسر تحت أقدامي، أتأمل كيف تستحيل خضرة أوراق الشجر صفرة متنوعة الدرجات، وحمرة نحاسية أو ذهبية.
يممت وجهي إلى الجهة الغربية، فرأيت ثنائيا آسيويا، قد بدت عليهما تجاعيد الزمن، يمشيان بانتظام.. الأنثى أمامه وهو من خلفها، يتذرعان في المشي، يرفعان ذراعيهما بحركات متناسقة.. كنوع من الرياضة السريعة، لا يلتفتان.. مشية عسكرية، وكأنهما في مهمة رسمية.
أشجار البرتقال كانت قد اصطفت بجمالية تسرق الالباب. رأيتها تهتز في الهواء محدثة حفيفًا موسيقيًا يرافق خطواتي المتراخية. كانت هناك تنتظر شهقة الصبح وإشراقة الشمس. فكانت قطرات الندى اللامعة تتراقص على أطراف الأغصان ثم تسقط صاغرة. وعبير الشجر يُعطر أنفاسي وينعش أوصال روحي. وحباتها المُكتنزة المتلألئة تشي لك بقطف ثمراتها غير الناضجة بعد! (أريزونا تشتهر بالحمضيات نجدها على قارعة الطرق العامة ولا أحد يلتفت إليها)!
وحدي أحلق في سماء الصمت، بعض فراشات ناعمة من حولي. حمامة بيضاء حطت تحت المقعد الخشبي، راحت تلتقط حبات الفشار التي تناثرت تحته.
عدت إلى البيت، لا أحمل في يدي سوى الدعاء.
حمدت الله كثيرًا على نعمه، التي ننسى في غمرة الحياة أن نشكره عليها. فالقدمين نعمة، ومن حق النعم شكرها.
تعاهدت الله- كما كنت طيلة حياتي- ألا استعملهما الا بما يرضيه ويثيب عليه.