كافة الحقوق محفوظة © 2021.
من وحي الزيارة…بقلم : د. منتهى الطراونة
غروب آخر في بلدتي التي كانت قرية صغيرة ، ما زلت أرسم تفاصيله ؛ بيوت متلاصقة ، وطرقات ترابية ؛ ليست هي الشريان الوحيد الذي يجمع قلوب ساكنيها ، فالتواصل ، والتراحم هو من يفعل ، وضوء القمر هو من يضيء ، فلا كهرباء تؤذي النظر ، وتفسد صفيحة الفضة المنبسطة عليها من أولها وحتى آخر بيت فيها ، قطيع أغنام يتهادى عائدًا من مرعى مجاور ، وقطيع ماعز يهرول باحثًا عن بيته ، ولا أدري كيف يهتدي إليه في ظل كل التشابه الذي كان ! يندفع الصغار للأمهات بشوق أوجده طول الغياب منذ ساعات الفجر ، ﻻ سيارات ، وﻻ أبواق ، وﻻ منفّرات صوتية تؤذي المسامع ، قرص الشمس الذي بدا ملتهبًا كقلب عاشق ؛ يكاد أن يختفي رويدًا رويدًا ، يلفّه الأفق الغربي خلف التلال ، صوت أم كلثوم يشدو ؛ (جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح) يأتي من بيت مجاور ، وأكاد أجزم أن كل البيوت لحظتها تسمع ذات اللحن ، بعض من الحليب الطازج يُغلى على نار هادئة ، أكاد أشتمّ رائحة المراعي فيه ، وبعض خبز الشراك يُخبز ، تنتشر رائحته في الحيّ تنعش القلوب ؛ من أجل وجبة عشاء تسدّ رمق المنتظِرين منذ الصباح ؛ الناس سواسية ، والقلوب واحدة لم يتنافر ودّها ، وكل بيوت القرية تستعد لليلة سمر عامرة بحكايا الجارات ، والجدات ، والآباء ، يرتفع صوت المؤذن للصلاة ؛ فيُهرع الرجال لمسجدها الوحيد يؤدون صلاة المغرب ، وبين كل هذا وذاك ، هناك عاشق صغير يظهر ، ويختفي في ذلك الزقاق الضيق ، ينتظر ظهور محبوبته ، يمتع نظره من بعيد ؛ بكثير من البراءة والنقاء !
كنت أراقب المشهد ، فأنا جزء منه ، قارئة لكتاب ، مستمعة لأغنية ، ويسعدني حفظ القصيدة ، أدعو بالخير لكل الأحبة ، وأنتظر عودة أبي الذي ما إن يطلّ ؛ حتى ينافس انعكاس تلك الأشعة على زجاج نظارته ، ذلك القرص الذي جرى لمستقره ؛ ليعود من جديد بإذن ربه .
أما أنا ؛ فأنتظره كي أطيل النظر في عينيه ، وأنا أخشى عليه الرحيل من غير عودة …