كافة الحقوق محفوظة © 2021.
من وحي لقاء رفيقات العمر … بقلم : د. منتهى الطراونة
ساعة من زمن استعادت فيها رفيقات العمر ذكريات عبرَت ؛ وأيقنتُ أنا ؛ أن كل مفترقات عمرك يمكنك أن تعبرها ، لكنك تبقى عالقًا هناك ، في مدرستك ، وبوابة عالمك ؛ مقاعد الدرس ، وجوه المعلمين ، تلك المساحة الصغيرة المتاحة من العالم الكبير التي تسمى الصف ، الجدران والسبورة ، الشبابيك المفتوحة على الحب والتي تحفظ الأسرار ، الباب الذي خُلعت يده بفعل فاعل ، وقُيّدت قضيته ضد مجهول ، والذي تهيأ لمغامرة بريئة ، سور المدرسة المسيَّج بالسرو والصنوبر ، الشارع العام ؛ ذلك الشريان الذي يؤدي إلى قلب (المزار) الدافىء ، ضحكات هنا ، ومشاغبات هناك ، مديرة حازمة صارمة ، لكن قلبها أبيض سرعان ما يسامح . مؤامرات بريئة على ذلك المعلم الخجول ، ومناكفات أكثر براءة مع ذلك الجادّ زيادة عن الحدّ !
المراييل الخضراء المخططة ، والشعر المسرّح الأنيق ، والمِقعد ، ورفيقتك فيه !
حقيبة كتبك ، ودفاترك تحملها ، وكأنك تحمل مستقبلًا مجهولًا لا تدري أين ستلقي بك أيامه !
مواكب الذكريات حضرت محفوفة بالحب لرفيقة كل الناس ؛ شقيقتي (سهام) التي لا تكره ، ولا تحقد ، تعطي بلا حدود ، وتسامح ، وتفي بالوعد ، ولا تنقض العهود !
كنت في حضرتهن أرقب المشهد ، ولهفة اللقاء ، بعد سنين عجاف استعادت خصبها ، ونماءها حبًا ووفاءً هذه الليلة ولو للحظات …
كنت حاضرة معهن جسدًا فقط ، لكن قلبي يضجّ ضجيجه المعتاد ، وثرثراته التي لا تهدأ ؛ قال لي :
أن تجلس مع من شاركك أجمل أيام العمر ؛ فأنت في نعمة من الله ، تنتعش ذاكرتك ، تحس أن شبابك المفقود عاد إليك سعيًا ، بعد أن توزعت أجزاؤه على مساحات العمر الذاهب ، ضحكتك الرزينة انطلقت مثلما كانت ؛ خفيفة جذلى ، لا تقيدها قيود ، ولا تحدّها حدود ، كلماتك المعلَّبة خرجت من قمقمها ، غير آبهة بما رسمته الأيام على وجهك من جدّية رغمًا عنك !
أصبح عالمك مفتوحًا ، بلا رقيب ، أو حسيب ، انطلقت فيه كل مشاعرك ، واختلطت ؛ فمرّة تضحك لا تدري على ماذا ، وما تلبث أن تبكي ، ولا تدري لماذا !
تحررتَ من كل منعرجات دروبك ؛ فباتت قصيرة مستقيمة ، تجمح عبرها بقدمين خفيفتين ، يسوقهما قلب طفل !
استعادت عيناك بريقهما ، وانقشع الضباب الذي كاد أن يلفّك بظلام رمادي لا تفهم له كنهًا !
ألقيت كل أيامك خلفك ، لا يهمك أين تسقط ، قلتَ كل ما تراجعتَ عن قوله في اللحظة الأخيرة ، تحررت من كل شيء !
كيف لا ، وأنت في حضرة الأحبة ؛ رفاق العمر ، والمكتب ، والسور ، والسبورة ، والشجر ، والحجر ، والمعلم ، والكتاب ، والأمنيات ، والمغامرات ، والمؤامرات ، ووجوه مرّت ؛ منها من استقرّ في القلب ، ومنها من ألقاه على قارعة الطريق ، غير آبه به ، ووجوه غادرت الدنيا إلى رحاب الرحمن ، وتلك الصحبة التي قال عنها شوقي :
ألا حبذا صحبة المكتب
فأحبب بأيامه أحبب
إلى أن قال
فدار الزمان ودال الصبا
وشبّ الصغار عن المكتب
وغاب الرفاق كأن لم يكن
بهم لك عهد ولم تصحب
وأقول أنا ؛ رفيقك هو رفيق ذكرياتك ، وأيامك ، وشريكك فيها ، أما ذلك الذي دخل عالمك عنوة ، أو صدفة ، فلا يعرفك ، وإن تهيأ له منك خطأ ؛ فلن يرعى فيك إلًّا ولا ذمة !
صمت قلبي في حضرة المغادرة ، وذرفت عيناي دمعة ، وظلّ السؤال يلحّ عليّ ؛ هل من لقاء جديد ؟!