كافة الحقوق محفوظة © 2021.
أنا … وحفيدتي… بقلم : د. منتهى الطراونة
لم يغب عن ذاكرتي يومًا ذلك الحذاء الأحمر، ذو الكعب العالي المصنوع من جلد متوسط الجودة، كيف لا، وهو يوم دوامي الأول؛ طالبة مستجدة في الجامعة الأردنية، وتقتضي حالتها الجديدة؛ أن تكون بكامل أناقتها حين تدخل هذا العالم، الذي لم يكن غريبًا عنها؛ فهذه ربما المرة الثالثة أو الرابعة، التي تدخل فيها الجامعة، لكن بصفة طالبة، وليست ضيفة عند شقيقتها التي سبقتها بسنوات، وتخرجَت.
غادر والدي الذي أوصلني عائدًا إلى الكرك؛ فغادرت معه روحي، لكنني صبّرت نفسي بأنني حققت حلمي بالدخول إلى هذا الصرح؛ طالبة متفوقة، ومبتعَثة، رفضت بعثة إلى جامعة الكويت، وآثرَت الدراسة في الوطن.
ودعته عند البوابة الرئيسة، وعدت أتابع محاضراتي التي تباعدت أماكنها؛ فمنها ما هو في كلية الآداب، ومنها في كلية الشريعة، ومنها في العلوم، مسافات شاسعة، وإن لم تكن قدماك تساعدانك على الهرولة؛ فالوضع متعب، زيادة على ألم مغادرة البيت، والمبيت خارجه لأول مرة، وهواجس النفس، ومشاعر مختلطة متداخلة لا تفهم لها كنهًا، ولا وجهة!
في غمرة كل هذا؛ لم أحس إلا وقدمي تنزف، وقد كُشط الجلد بفعل طرف الحذاء الجديد، الذي غار فيه لصلابته، ألم لا يحتمل، وندم على سوء الاختيار، ورفض نصيحة تقول؛لا يعنيك اتساع العالم إن كان حذاؤك ضيقًا؛ ماذا أفعل؟ تبقّى محاضرتان، والألم يزداد، وتساؤل ساذج يقول؛
كيف سأبدو، ببنطال أسود، وقميص أحمر، ويجب أن تكتمل الأناقة بالحذاء الأحمر أيضًا، ولا أدري كيف فصّلت هذا القانون الذي لا يمتّ للأناقة بصلة، فنحن أحيانًا نلزم أنفسنا بما لا يَلزم، ثم ندفع الثمن فيما بعد! ما العمل؟!
كيف سأمشي أمام هذه الجموع مِشية من اختلّ توازنه، وليس معه من يسنده، والكتف الوحيدة التي تسند عادت إلى الكرك؛ تلك المدينة التي يسند أهلها كل من يحتاج السند القوي الوفي؟!
ماذا سيقولون عني، وأنا أرفض نظرات الشفقة، أو السخرية؛ ليس معي دواء مسكن للألم، ولم أحسب حسابًا لهذا الموقف، يا لسوء الحظ!
كلما مشيت خطوة، زاد احتكاك الحذاء بالكعب وما فوقه، وتسلل الألم لكل ذرة في الجسد، حتى خِلْت أنه وصل الدماغ!
يا للخيبة! لطالما حلمت بهذا اليوم، ولطالما تأملت الحذاء وأنا أنتظر الدوام بفارغ الصبر، ولطالما نسقت معه ملابس كنت أحلم فيها!
الآن لن أستطيع ارتداءه، كم خاب فيه الظن، وكم خذلني، ليتني ألقيت به في الطريق قبل أن يهزمني!
عدت إلى سكن الطالبات، وارتديت حذاء آخر ليس بينه وبين الأناقة أية علاقة، فهو مفتوح من الخلف، وليس له كعب عال، فأصبح البنطال يمسح الأرض، ويلمّ الغبار، فليس بينه وبينها مسافة، كان ذلك الحذاء المخادع يمنع الاقتراب!
قفز من ذاكرتي المشهد، وحفيدتي أسل تتهادى في حذاء ذي كعب عال، أحمر، مثل حذائي الذي أفسد عليّ فرحة وضع قدمي على أول طريق في الحياة، وسير أول الخطى في كل تلك الدروب التي أسلمتني لمنعطفات كل واحد منها أكثر صعوبة، وشدّة من الذي قبله، كدت أسقط كل مرة، لولا أن تولاني القوي العزيز، فأنار القلب، وثبّت الأقدام.