كافة الحقوق محفوظة © 2021.
الذكريات العنيدة…بقلم : د. منتهى الطراونة
يكاد الليل ينتصف في حسابات طفلة مثلي آنذاك، لكنه في الحقيقة بُعيد الغروب بقليل، وعلى ضوء سراج خافت توشك ذبالته أن تنطفيء، كلما هبت نسيمة تسللت من شقوق النافذة العتيقة، تجلس (جواهر) شقيقتي الكبرى، تنسج خيوطًا دقيقة، تُدخل فيها بعض (الخرز الملوّن) تزينها، وتمنحها زركشة تكاد ألوانها تأخذ (بعقلي) إلى عالم جميل، ينسج خيالي البسيط فيه قصصًا وحكايات، إذ ترسل بريقًا أخّاذًا مع انعكاس الضوء، تحس أنه أشعة تشبه ألوان قوس قزح، أجلس أنا لأتابع حركة تلك الأصابع الماسية ترسم لوحة لا أتوقع ما هي، ولا كيف ستكون، حتى إذا ما انتهت منها، تبيّن لي أنها أغطية ل (كاسات الشاي)؛ التي تصطف في الجزء العلوي من (النملية) بانتظار الضيوف، فقد بدأت تباشير العيد أن تهلّ، ولا بدّ من بعض الاستعدادات البسيطة؛ تمنح فرحًا، وشعورًا بالتغيير.
وفي الليلة التالية، وعلى ضوء ذات السراج؛ تنسج قطعة أخرى أكبر من سابقتها، حتى إذا ما انتهت وضعتها بعناية على المنضدة الخشبية، وتمتمت بكلمات لم أفهمها؛ ليشرق الصباح، ويتبين أنها غطاء للسراج الذي أغدق عليها فضله وعطاءه، وأنار ليلتها، فأحبت أن تقدم له هدية هي عربون شكر وامتنان؛ فجواهر لها من اسمها نصيب؛ تتقن كل ما تصنع، أنيقة، جميلة، محبة للناس، والأشياء، وفيّة، و(ست) بيت من طراز رفيع!
البارحة، وفي بيت (رغد)؛ شقيقتي الصغرى، في ركن غير قصيّ، تربعت تلك القطع التي لحقها شحوب، وبعض ندوب، جرّاء دورة طويلة استقرت في نهايتها هنا؛ لتقول؛ إن الوفاء للراحلين لا يغيب، وإن ما نقشوه على أشيائهم الصغيرة، وما تركوه؛ سيبقى شاهدًا على أنهم كانوا هنا، وأنهم غادروا بأجسادهم فقط، لكن أرواحهم باقية معنا، وأننا ما زلنا نحتضن تلك البقايا ونرعاها، وكأننا نقول؛ نحبكم، وما زلتم هنا، في سويداء القلوب، ولم تغادروا!
يا لتلك الذكريات العنيدة كيف تنقضّ علينا، وكيف تتشظى لتصيب شظاياها كل ما يمكن أن تصل إليه، بلا رحمة، ولا شفقة!
الصورة المرافقة هي ما تحدثتُ عنه.