كافة الحقوق محفوظة © 2021.
الله وحده السند …بقلم : د. منتهى الطراونة
ناولتني مصحفها الذي تقرأ فيه، وتمتمت بكلمات لم أسمعها جيدًا، فهذا الركن من المسجد الحرام مكتظ بالنساء من كل بقاع الأرض، فالموسم حج، والموقف مهيب، وأصوات تلاوة كتاب الله مثل دويّ النحل، لا تستبين منها شيئًا، ولا تسمع مَن حولك. وذهبت لتعود بعد قليل تسألني عنه!
كنت بدوري ناولته إحداهن، ولم أتبين وجهها، أو حتى أنظر إليه، ظنًا مني أنه ملك عامّ مثل بقية المصاحف، ولم أتوقع أنه ملك خاصّ، فالمشهد روحاني جدًا في تلك اللحظة الخارجة عن حدود كل شيء إلا عن حدود الله، والسعي لرضاه.
عادت وسألتني بلهفة؛ أين مصحفي؟ قلت لها؛ لا أدري ناولته إحداهن، ولا أعلم من هي، فأنت ترين الموقف!
غضبت مني، وعاتبتني بدموع منهمرة، ألم أقل لك سأعود بعد قليل، وهذا مصحفي الخاص؟! قلت لها؛ لم أسمعك، ولم أتبين ما قلتِ، واصلت البكاء، وقالت؛ إنه قُدم هدية لها من عزيز على قلبها، ووقّع لها على زاوية منه، ولم يفارقها منذ ذلك الزمن، وتقرأ فيه حيثما كانت!
عندها شعرت بثقل في قلبي، وأنا ألوم نفسي؛ لمَ فرّطت فيه! استمرت بلومي، وقالت لي بالحرف الواحد؛ أريد مصحفي وليس غيره!
تخيلوا وضعي النفسي آنذاك؛ أقف حائرة بين آلاف النساء في ظل ازدحام غير عادي، وتشابه في الملابس، وانشغال بالقراءة والصلاة، فأين سأجده في ظل كل هذا المشهد، وهي سامحها الله تلح في طلبه، ولم تفتر لحظة!
عندها بكيت، وتوجهت بالدعاء إلى الله؛ اللهم أرشدني لتلك التي أعطيتها المصحف، ولم أنظر لوجهها، أين سأجدها وسط تلك الوجوه إن لم تعني يا الله؟!
كنت أمشي بين تلك النسوة، وأنا بحالة ضيق شديد، وهي تمسك بي خائفة أن أتوارى عن ناظريها، فلا تجدني بعد ذلك!
فجأة، أحسست أن خطاي تنقلني لتلك التي تتلو القرآن في زاوية بعيدة، امرأة إفريقية، سألتها أن أتفقد المصحف الذي تقرأ فيه، وأنا على يقين أنها هي المقصودة، كيف لا، وقد دعوت الله بيقين الواثق من الإجابة، ولن يخذلني، وكانت الاستجابة؛ إنه المصحف الضائع نفسه، وهو ضالتي الذي ما إن فتحت آخر صفحة منه؛ حتى وجدت توقيع من أهداه لها!
احتضنته وهي تبكي، واعتذرت مني، وانصرفت.
مرت سنوات على ذلك الموقف، وتبعته مواقف كثيرة أكبر، وأشدّ، وما زلت أحمد الله، وأثق بأنه لن يخذل من توجه إليه يسأله الفرج بقلب سليم، ويتوكل عليه وحده، ويسلم له كل أموره، ولا يشرك معه أحدًا من خلقه، ولا يعوّل على بشر.