ليلة وذكريات … بقلم : د. منتهى الطراونة

تستدير الشمس للمغيب في قريتنا الوادعة، ومعها تستدير القلوب التي تهفو للحظة صفاء، فالساعة الآن السادسة والنصف، وهذا موعد تبث فيه إذاعة (العدو) أغنية لكوكب الشرق؛ (أم كلثوم)، وما زلت أتساءل لماذا عمد إعلامهم لبث هذه الساعة يوميًا دون انقطاع، فهل تصالحوا مع (الست) فقط دون كل العرب؟!
وبغضّ النظر عن الهدف، فقد أتاحوا لنا ساعة نستمع فيها لحديث القلوب (المكتوم والملجوم)، عبر الكلام العذب والنغم الشجي، فالعربي رقيق وشاعر بفطرته، وتفعل الكلمة فيه فعل السحر، يتذوقها وتشعل خياله وتحرك الإحساس.

نعم عرفوا أننا شعوب نكتم الحب حتى يكاد أن يقتلنا، ونعيشه فقط بين دفاتر الأشعار، وحكايا من سبقونا، وعرفوا كذلك؛ أننا نتزوج من ابن العم والقريب، على علّاته، ومن أصدقاء الأهل، ومن الجيران، وممن تربطنا بهم علاقة تجارية، ومصالح آنية، وعرفوا أن بيوتنا ما هي إلا شركات مغلقة على اللاحياة؛ يمارس فيها الشريكان دور الأزواج في خدعة يقنعون فيها أنفسهم انهم أسرة سعيدة، مع أن قلوبهم شتّى، وكل منهم يغني على ليلاه، ويلعن في سِرّه ساعة جمعتهما تحت سقف واحد!

ومهما كانت الأسباب التي يخفونها شكرًا لهم إذ منحونا فسحة من جمال، فنحن جيل ذوّاق بمشاعر رقيقة، وعفوية ونقاء يفتقده الكثيرون من أبناء التكنولوجيا، الذين على ما يبدو تماهت قلوبهم مع أجهزتهم، فصاروا مثلها أو أشدّ قسوة!

أستمع بكل إصغاء مع شقيقاتي لذلك الصوت ينبعث من مذياع عتيق يقول:
أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر

يضطرب قلبي، وينتظر البقية
التي تأتي لتلصق الغدر بالأنثى، وهذا ما أرفضه، لكنني أواصل الاستماع

وفيت وفي بعض الوفاء مذلّة
لفاتنة في الحيّ شيمتها الغدر
تسائلني من أنت وهي عليمة
وهل لفتى مثلي على حاله نُكْر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
قتيلك قالت أيّهم فهمُ كُثر!
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مِتُّ ظمآنًا فلا نزل القطر
إلى أن تقول
وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت معاذ الله
بل أنتِ لا الدهر

يسقط قرص الشمس في مستقرّه، ويطلّ والدي العائد من متجره، وأكاد أرى ما تبقّى من ضيائها ما يزال هناك بين عينيه وزجاج نظارته، فيشرق قلبي، وينتهي الخيال الذي لم ينسنا موعد الصلاة، وأن الله أكبر من الرؤى والأحلام وكل البشر.

في بيتنا نظام، ومنهج خفيّ، يعلمنا أن نوازن بين المسؤوليات، والواجبات، ونرعى المشاعر، ونضبط الانفعالات، نحدد الأولويات، ونفصل بين المهم، والأقل أهمية …

وما بين كل هذا وذاك؛ أستفيق من جديد على صوت يذكّرني بأن واجبًا فيما يسمى (الرياضيات) التي أمقتها ينتظرني، وأن لوحة (الست) وروحانيات الصلاة بكل جمالياتها؛ انتهت، وأن المجهول س، والمجهول ص ينتظران الكشف عن علاقتهما، وأن (فيثاغورس) ونظريته يمعنان النظر، وأن الزاوية الحادّة تراوغ لتصبح منفرجة، وأن الدائرة تدور؛ لتُحكِم الخناق على قلبي، لكن أملًا واحدًا يلوح من بعيد ليقول لي دائمًا؛ إن أقصر الطرق؛ هو الخط المستقيم.

أنهي الواجب (جرعة واحدة) كي لا أتذوق مرارته، لأسرع للقاء كتاب لم أنه قراءته بعد، واقترب موعد إعادته لمكتبة المدرسة، وفيما تبقّى من وقت المساء نحن على موعد مع حكاية من حكايات والدي يرويها لنا على مهل، نتحلّق حوله مثل حبات عقد منظوم، نراقب حركاته وسكناته، ونصغي لنبرة صوته، ونتأمل وسامة وجهه، ونشتمّ عطره، نتعلم الدروس والعِبر،ثم نحتفظ باللقطة في سويداء القلوب؛ كي نستعيدها وتمنحنا القوة بعد انفراط العقد، وتفرّق حباته في دروب الحياة ومفترقاتها….