كافة الحقوق محفوظة © 2021.
متى تضبط الفوضى… بقلم : د. منتهى الطراونة
لحظات قليلة كنا نسرقها من زحام يومنا الحافل، حين كنا في مراحلنا الدراسية الأولى؛ نجتمع على أبواب البيوت، أو في مساحات متاحة من الأزقة، أو على مِصطبة دكان أغلقه صاحبه ريثما يعود، أو في ركن متاح من حوش بيت نطمئن لأهله.
لحظة نتسابق فيها في ميدان الشعر؛ واحدة تأتي ببيت، وتأتي الأخرى ببيت آخر، يبدأ بحرف قافية البيت الأول، وهكذا إلى أن تنتهي المسابقة بقائمة طويلة من الأبيات من مخزون الذاكرة الثريّ الذي زودتنا به المناهج، وكتبها، وما تيسر لنا من كتب أخرى، ليُعلَن فوز إحدانا بطقوس بريئة!
لحظة نتسابق فيها كتابةً؛ لنرى من تكتب عبارة جميلة بخط أجمل من الأخرى، قبل أن تنقضّ لوحة المفاتيح الصماء لتودي بذلك الحرف الأنيق، وما وصله من دفء مشاعر القلب عبر الأنامل!
ولا أدري لماذا كلّما تحدّينا أنفسنا والآخرين بالكتابة؛ نكتب كلمة (القسطنطينية) التي تمنحنا دقة كتابتها جواز سفر نسافر فيه لكل عوالم الكتابة!
لحظة لاختيار أجمل بيت من الشعر، أو عبارة من النثر؛ لنزيّن بها سبورة الصف الذي نعشق!
لحظة أخرى نتسابق فيها بقراءة أجمل ما حفظنا من قصائد باللغة الإنجليزية لشعراء عالميين؛ مثل شكسبير، ووليام بليك، وجون كيتز، وجون ميلتون، وغيرهم!
لحظة نستعرض فيها ما حفظنا من آي الذكر الحكيم، وكيف نتلو ونرتل!
لم نكن نخطيء بالضبط، ولا بالكتابة، وكانت لدينا مهارة الإلقاء، وفهم المعنى، ولدينا مخزون من الكلمات والعبارات، نحسن التصرف فيها على وفق مقتضى الحال!
لم نكن نفكر أن ندّعي يومًا أننا أدباء على اختلاف صنوف هذا الأدب، وأشكاله، وألوانه!
كنا نعلم أن الشعر موهبة، ووحي، وإلهام يأتيك شيطانه يملي عليك الذي ما إن تقرأه بعد حين، حتى تتعجب، وتتساءل؛ كيف قلته، وهل أنت حقًا قائله، وكنا نعلم أن قول الشعر ليس قرارًا تتخذه لتنتمي لهذه الفئة من الناس، عبر كلمات بلا معنى، ولا وزن، ولا قافية، ولا صورة، أو خيال، تحاول من خلاله الدخول لعوالم ليست لك، يكتفي فيها الناس بمجاملتك، وفي سرّهم يضحكون منك!
وكنا نعلم أن كتابة النثر أكثر صعوبة، وتحتاج الكثير من الأدوات، والموهبة، لتكتمل ملامحها، وتظهر هويتها.
طافت بخاطري هذه الذكريات، وأنا أتأمل أفواج طلبتنا، وهم يعودون من مدارسهم، يجوبون الشوارع، يمزقون أوراقهم، ويعبثون بهواتفهم، ويصرفون لبعضهم أقسى الكلمات، وأكثرها سوءًا!
وطافت بخاطري، وأنا أتأمل المشهد الأدبي، ومَن حشروا أنفسهم فيه عنوة، وهم لا ينتمون إليه لا من قريب، ولا من بعيد!
وأنا أتأمل بعض حملة الشهادات العليا وهم لا يتقنون الضبط ولا رسم الحروف، ولا التعبير عن أفكارهم بكلمات معدودة مفهومة!
وأنا أتابع كرنفالات الأدب تملأ أروقة الصالات، ويعتلي المنابر فيها بعض من أوصلتهم إليها الصداقات، والكولسات، والمعارف، والروابط، والمنتديات، يشبعهم الناس فيها مدحًا وتفخيمًا، وتعظيمًا، ويمنحونهم الألقاب، والدروع، والأوسمة!
وأُبعِد عنها قصدًا وعمدًا مَن لا يتقنون فنّ العلاقات، وحشر أنفسهم بين الشقوق، ولا التلميع، والتزلف، وكل مَن لا بواكي لهم!