كافة الحقوق محفوظة © 2021.
شوق وحنين … بقلم : د. منتهى الطراونة
لم تخلُ قرانا من المتعلمين، والعاملين في التعليم آنذاك، لكن الأكثرية كانت تأتي من خارج محافظة الكرك، أو من المدينة نفسها، وكانوا يضطرون للسكن في القرية؛ لعدم توفر المواصلات حينها، وربطتهم بالأهالي علاقة احترام كبير؛ إذ حرص معظم الناس على دعوتهم لبيوتهم وإكرامهم، في طقس مهم يمارسونه، إذ كان للمعلم مكانة كبيرة ومتميزة، (حتى أولئك الذين ليس لهم أبناء ذكور، أو ليس لهم أبناء مطلقًا؛ كانوا يدعونهم)؛ مما يعني أن الاحترام لم يكن مربوطًا بمصلحة أو هدف رخيص!
كنت أراهم يجتمعون يوميًا في دكان أبي، يتبادلون الأحاديث عن المدرسة، وعن أمور كثيرة تبينت لي مسمياتها فيما بعد؛ سياسة، أدب، فن، ومنهم سمعت أكثر عن فلسطين، واليهود، والتقطت اسم جمال عبد الناصر، وسيد قطب، وحسن البنا، وسمعت عن القومية العربية، وكنت أصغي لمناقشة العدد الكبير من الانقلابات على الحكم في الدول العربية؛ التي كانت تأتي أخبارها من خلال الراديو؛ الذي اعتادوا أن يلتفوا حوله، والذي ما زلت أذكر شكله، جهاز مستطيل بلون مثل لون السماء، بمقبض يتيح سهولة حمله، بمفتاحين، واحد للتشغيل والثاني للانتقال من محطة لأخرى، والكثير من الثقوب، وأظنها لتمكين الصوت أن ينطلق من تلك السماعات داخله، وضعه والدي على طاولة مكتب خصص له ركنًا أثيرًا، مكتب خشبي بلون بنّي غامق، له ثلاثة أدراج من كل جانب، تتوسطها مساحة صغيرة على شكل قوس، كنت أحشر فيها جسدي الصغير كل ذلك الوقت كي أستمع، وكثيرًا ما كان يلمحني أحدهم، ويتعمد إخافتي بحركة مفاجئة من مقدمة حذائه، تحدث طَرْقَة يسقط منها قلبي، لكنني أبقى ولا أغادر.
كنت أسمع كل الأحاديث مجردة، ولا أفهم التفاصيل، ولا أبحث عنها فكل ما يعنيني آنذاك؛ هو أن أشعر أنني مع أبي، وكأنني أحسّ أنه لن يطيل البقاء معنا، فقد رحل فجأة في سنّ صغيرة.
كان كل همي أن أنتظر عودته إلى البيت، لأسير بجانبه، وأحمل معه مفتاح الدكان الكبير المربوط بسلسلة فضية ما زالت تبهرني بتنظيم حلقاتها، ورائحة عطره التي علقت بها، إذ كان والدي مولعًا بالعطور (وورثتُ هذا عنه)، ولأحمل معه بعض أغراض طلبتها أمي، ونسيتُ معظمها، كنت أسير خلفه مهرولة أحيانًا، إذ كان يسبقني بخطواته الواسعة الواثقة، وعندما يتاح لي أن أعود لمكاني إلى جانبه بأنفاس لاهثة، أتوقف لحظة لأنظر إلى أعلى حيث يكون وجهه!
كبرت؛ وأصبحت أشبّه جلساتهم تلك بالصالونات السياسية، والثقافية، التي كانت تتم فيها مناقشة الحركات النهضوية في دول الوطن العربي كافة، وكانت تتردد فيها مفاهيم ومصطلحات فهمت معناها فيما بعد، وكانت تتردد فيها أسماء بهرني انسجام حروفها، وجرسها الموسيقي، وتلك الهالة التي نُسجت حولها (كذباً)، وتبينت عمالتها وخيانتها عندما توقف التاريخ ليسرد كل الذي كان!
ولشدّما كان يبهرني ويرضيني أن يتوقف والدي للحديث عن بناته بالاسم، وعن نيته لتعليمهن دون توقف عن ذلك مهما كانت الظروف، وأحيانًا يتوقف ليخرج ذلك الملف من أحد الأدراج يناوله أحد المعلمين؛فيه شهاداتنا، وبعض الإنجازات الصغيرة، يتحدث عنها بفخر كنت أراه في بريق عينيه، واختلاف نبرة الصوت.
ما زلت أحب تلك الجلسات، وأبحث عن مثلها، وحين تتاح لي سرعان ما أنصرف بقلبي في انصراف لا إرادي، وغير مبَرّر، أبحث فيه عن أبي، حين يتحدث بصوته العذب، وحركات يديه، وسيجارة يشعلها من ولاعة الرونسون المميزة، (التي آلت إليّ في معركة انتصرتُ فيها على كل من حاولوا الاستئثار بها) قبل أن يترك التدخين، وبمخارج بعض الحروف عنده حين ينطق القاف ممزوجة بالكاف، وكلمة كانت تلازمه كلما أنهى فكرة؛ يقول لمحدثه (سمعت)؟!
ما زلت هناك عالقة عند العطور والسلاسل الفضية والذهبية، والمفتاح الكبير، وذلك المذياع، وذلك الدرب أو الشريان الواصل بين بيتنا، ومتجره، وقلوبنا وقلبه.
ها أنذا يا أبي أعود كلما هزني الحنين إليك ل(رجم الصخري)، لتلك الدروب، والأزقّة، والوجوه، والأماكن، أبحث عنك (حيًّا)، في كذبة أكون فيها أكثر صدقًا…
صرفت نظري يا أبي عن أحاديث السياسة، والقوم، والتاريخ، والجغرافيا، والحب، والحرب والأشعار، والروايات، والأغنيات، ولم أعد أبحث عن شيء غير ذلك الأمان، وتلك الأحاديث، وذلك القلب الذي أثق أنه ما زال ينبض بحبنا، والحرص علينا، ومتابعة كل أمورنا، وهو تحت التراب ..
ألم أقل لكم إنني أكذب بصدق!!
*الصورة المرافقة ولاّعة أبي….