كافة الحقوق محفوظة © 2021.
هلوسات يوم حارّ …. بقلم : د . منتهى الطراونة
لأنني كائن شتوي، ولدت ذات شتاء أغدق الله فيه على الناس ماء كثيرًا، وخيرًا عميمًا، سحّت فيه المزاريب، وآوى الناس إلى بيوتهم من شدّة الهطول دون توقف، مثلما قالت أمي؛ ودوّن أبي في مفكرته، (منتهى)؛ لي من اسمي نصيب كبير، حين أنتظر النهايات قبل أن تبدأ الحكايا؛ فإنني أستعجل انتظاره منذ بدايات الخريف، وربما قبل ذلك!
فما إن يلملم الصيف أشياءه ملوّحًا بالوداع، حتى تبدأ إشارات الشتاء المتداخل بالخريف، تصل إلى جسدك الذي تحسه انكمش، وصغر حجمه، وربما تضاءل في ردّة فعل للإحساس بالبرودة، فتبدأ أشياؤك تأتيك تباعًا.
غرفتك التي ساء حظها وجعلتها مأواك الوحيد، وتركت كل ما تبقّى من غرف تشمت بها، وهي تراها تحتمل كل التناقضات، والتقلبات.
مقعدك الأثير يزحف ليقابل نافذة تطلّ على شرفتك، ترى منها قطرات المطر تنساب مثل اللآلىء، يلمع بريقها في عينيك، فيخال الناظر إليك أنك تبكي، أغطية خفيفة ترافق جلستك إلى جوار جرامافونك العتيق، تستمع لموسيقى شرقية تعشقها، رجفة خفيفة في يديك، أرسلها قلبك لحظة تخلّى العقل فيها عن أداء واجبه، وأنت تقلّب اسطوانات تهتّك وجه بعضها، فلم تعد ترسل أنغامها إلا مشوّشة متقطعة، كأنها صوت ذلك القلب المبحوح، لكنّ بعضًا من آي الذكر الحكيم يصل بوضوح شديد إليك، وإلى كل حواسك التي أصبحت في حضرته (ستًّا)، يأخذ بلبّك، ويلجم لسانك عن كل قول، إلا عن قول لا إله إلا الله، تلملم أجزاءك المبعثرة، وترمم كل ما أتلفه غباؤك.
أغطية أرض غرفتك التي تعتني بها لونًا، ونوعًا، وكأنك تخشى عليها البرد، بعض أثوابك المعلّقة على مِشجب تعمّدت إهمالها، فقد جمعتك بحدث تحبه الشتاء الماضي، وخشيت عليها أن تفقد عطرًا يأتي بذكراهم، بعض كتب أرجأتَ قراءتها لليالي الشتاء التي فيها مُتّسَع، بعض أدواتك، أقلام جفّ حبر معظمها ولم تستطع التخلّي عنها تحت وطأة الحنين، وقصاصات ورق، فنجان قهوتك، عطرك الشتائي، معطفك، مظلتك رفيقة الخروج، مشروباتك المفضلة، فاكهتك المجففة سميرتك عند الملل، صندوق ذكريات جمعتَ فيه بعض ما أهدي إليك في الصيف، أوراقك، وخربشاتك فوقها تشي بك، ولا تكتم أسرارك، هلوساتك، وأحاديث نفسك، أمنياتك المعلّقة، والمؤجَّلة، والتي فات أوانها، صور ومواقف التقطتها ذاكرتك، وتشبثت بها رغمًا عنك، أحبتك ممن كانوا معك ثم رحلوا، أو أُجبروا على الرحيل، وبقيت بعض متعلقاتهم تنهش ما تبقّى من صبرك وتجلدك، نوافذ بيتك المطلة على حديقة باتت أشجارها تنتظر رحيل الأوراق، جدران غرفتك، لوحاتك الأثيرة، وقصصها، حتى تلك الساعة التي بتَّ ترجو عقاربها أن لا تلدغ قلبك ببطئها الرتيب، وترجو تكتكاتها أن ترفق بسمعك.
كل ما حولك أقمتَ جدرانه، وكل ما حولك دافيء ثابت قوي، وحده جدار قلبك يوشك أن ينقضّّ، وليس من يُقمْه، دافىء جسدك، وساكن، وحدها روحك تحلّق بعيدًا عنه، تشكو البرد، والزمهرير!