كافة الحقوق محفوظة © 2021.
زمن الصدق والبراءة … بقلم : د. منتهى الطراونة
لم نكن ننام تلك الليلة التي تسبق موعد تصويرنا من أجل امتحان عام؛ (المترك أم التوجيهي)!
وما إن تشرق الشمس حتى يصطحبني والدي إلى الكرك، ففيها مكانان للتصوير؛ واحد اسمه استوديو الكرنك، والآخر اسمه الأشهب!
لا إجراءات تتم للشكل، وأكتفي فقط بتصفيف الشعر بما يتناسب ومظهر الطالبة، فقد صدرت التعليمات بأن تكون الصورة رسمية، (ولا أدري آنذاك هل يوجد صور غير رسمية، وما هي مواصفاتها)، المهم أنني أحرص على أن يظهر ذلك الشريط الأبيض، حتى لو وضعته في مقدمة الرأس، فهو جزء من مظهر الطالبة في كل مدارس المملكة على الإطلاق، في نظام صارم لا يجوز تجاوزه، وأحرص على ارتداء المريول الأخضر، والقَبّة البيضاء حول العنق التي تختلف أشكالها، فمنها ما هو من القماش، ومنها ما هو مشغول بخيوط الصوف على (السنّارة)؛ وهذا ترف زائد لم يكن متاحًا للجميع.
لا أعرف زينة، ولا ماكياجًا، ولا كونتورًا، ولا فلاتر، ولا أي عملية مما نراه اليوم، وما زلت أجهل الكثير على الرغم من مرور كل هذا العمر!
بعد رحلة طويلة، وانتظار الباص الوحيد الذي يحملنا للمدينة، وتأملات ذلك الطريق الممتد إليها، والمرور ببلدات صغيرة لم تكن غير مجموعة من البيوت والدكاكين، والشوارع المهترئة، فلا يلفت النظر خلالها غير مقامات الصحابة الكرام في المزار، وبقايا قوس يظهر من بعيد اسمه المشهد في مؤتة! وانبهارك بمنظر القلعة تطلّ عليك تقول لك ها أنت على مشارف المدينة في وادي اطوي، وما عليك غير انتظار دقائق كي تصل الاستديو المذكور.
يضطرب قلبي، وأتفقد شعري لأتأكد هل ما يزال مصففًا، بعد أن عبثت به نسيمات هبت من شباك الباص، لم أجرؤ على طلب والدي أن يغلقه خجلًا، وحرصًا على صحته فهو لا يحب الحرّ.
ندخل الاستديو برهبة ووجل، وإن ساعدنا الحظ نكن أول الواصلين كي لا ننتظر طويلًا، أجلس مقابل الكاميرا الوحيدة، التي تتكىء على ثلاث أرجل، يقف خلفها المصور، يُصدر تعليماته لك، وأنت الجالس على الكرسي الوحيد، الذي جلس عليه مئات قبلك، تنفذ التعليمات؛ حرّك رأسك (يمين)، (يسار)، ثبّته قليلًا، انظر لإصبعي، أغلِق فمك؛ (فالابتسامة ممنوعة، وتودي بجدّية اللقطة، وربما لن تقبل المدرسة الصورة)!
تكاد تسمع ضربات قلبك تفضح ارتباكك، وتذهب في خيالك إلى أبعد نقطة، وتتساءل؛ كيف ستظهر الصورة، وما هي ردة فعل س، وص من العائلة، والصديقات عند رؤيتها؛ فتبذل كل الجهود كي تظهر حلوة!
تعود إلى البيت بعد رحلة المدينة، التي قد تستغلها لقضاء أمور أخرى بسيطة جدًا، كتذوق بعض الحلوى، أو إن أكرمك والدك؛ يأخذك إلى مطعم تتناول فيه وجبة تظل في ذاكرتك!
أسبوع، وربما أكثر في انتظار ظهور الصورة، يمرّ بطيئًا ثقيلًا
تغرق فيه بالخيال والتساؤلات؛ كيف ستبدو.
كل أهل القرية يعلمون بالحدث، وكل من يقابلك منهم يسألك؛ (طلعن صورك؟!)…
إلى أن يأتي اليوم الموعود، يوم يأتي والدك حاملًا ذلك المغلف الورقي الصغير؛ الذي وضع المصور فيه صورك الشمسية، المقيدة بعدد محدد؛ ست صور شمسية بالأبيض والأسود!
تسارع لأخذ هذا المغلف قبل أن يختطفه ذلك الذي سيشمت بك، وينتظر تلك اللحظة، تفتحه بيد مرتجفة، وقلب مضطرب، قبل أن تُصدم بوجهك عابسًا، أو عينيك مُغمضة، أو نظرتك نظرة جندي تجنّد حديثًا، أو بدت جلستك كأنك تهمّ بالنهوض قبل انتهاء المَهمّة!
يأتي أهلك كي يروا صورتك المنتظَرة، وأنت تترقب ردة الفعل، وإن ساعدك الحظ، تكن صورتك دون ملاحظات، أما إن كانت مثلما وصفتُ سابقًا، فالويل لك من استهزاء أخوتك، وجيرانك، وأصدقائك، وضحكاتهم، وتشفّيهم، فتقبع أنت في زاويتك حزينًا، مخذولًا، تلعن تلك اللحظة التي أوصلتك إلى هنا، إلى أن ينقذك صوت والدك؛ لا عليك، سنُعيد الصورة!
كنا نحسب حسابًا أن تكون الصور مناسبة، لأننا ربما سنهديها لأقربهن للقلب من الصديقات، ونكتب على ظهرها (كلاشيه) موحّد( إذا مرّ الزمان ولم تريني فهذا رسمي فتذكريني)، قبل أن تصبح صورنا متاحة لكل البشر عبر هذا الفضاء، وما زالت بعض صور الصديقات عندي أبكي لرؤية صور الراحلات، وأدعو لهن بالرحمة، وأرسل دعوات صادقة للباقيات، بأن يحفظهن الله ويسعدهن.
قفزت تلك الذكريات، وأنا أشاهد الصور عبر هذا الفضاء من كل شكل ولون، وأشاهد طفلًا دون الرابعة يلتقط (سيلفي) لنفسه، بعد أن يكون جهز فلترًا مناسبًا، وامرأة تتمايل وتزهو بظلها على حائطها، تنتظر شهقات الإعجاب، وبعضهم ممن يحرص على حشر نفسه في كل مناسبة كي تظهر صورته، ويبدو مهمًا، وهواتف في أيدي الجميع، في كل زمان ومكان، تلتقط لقطات لكل شيء حولك، حتى أنفاسك المتعبة، وخيباتك، ولوجوه، تبدو ليست هي ذاتها؛ مما طالها من عمليات، وتحسينات، وترميمات!
أحزنتني صورنا تلك الأيام، مع أنها صادقة، وحقيقية، وأحزنتني أكثر؛ صور مواقف من أقرب الناس إليك، يتباهون بأنهم يجلسون في أماكن لا تروق لك، ومع بشر لا تعرف من هم؛ ظنًّا منهم أنك ما تزال تهتم!
ويبقى ذلك النداء الخفيّ بينك وبين نفسك؛ على الرغم من كل شيء؛ (اضحك تطلع الصورة حلوة)….