كافة الحقوق محفوظة © 2021.
رسائل ورقية ألكترونية شتّان ما بين وبين …بقلم : د. منتهى الطراونة
بعيدًا عن كل الضجيج حولي، وعن كل تناقضات البشر، وانحراف بوصلتهم انحرافًا متعمدًا أو رغمًا عنهم، يلقي بهم في غيابة الجب، وتغييب السيّارة تغييبًا متعمدًا كي لا يُلتقطوا، فهم لا يستحقون الالتقاط، وفي زاوية من حديقتي اصطنعتها لنفسي، بعد إزالة جدار كان يمنع عني صوت خشخشة أوراق الخريف الجافة، وهي تتساقط متدحرجة على الأرض، فتحشرها تلك الزاوية الحادة، كي تبعدها عن الأقدام العابرة عبر ذلك الممر، فتحرمني الاستمتاع بذلك الصوت الآسر الناجم عن تفتتها، ومن ذلك الشعور الذي يلازمني وأنا أدوسها بأقدام حافية دون حاجز بيني وبينها، غير آبهة بما قد يكون تحتها من هوام الأرض، التي ربما تحرمني لدغة منها تلك المتعة!
ما بين الأوراق والأوراق في مسافة بين العمر الفائت والذي تبقّى؛ ألقاني الحنين في متاهة رسائلي الورقية، وتركني مع بقايا العطر، وخيال الوجوه التي أعرفها على طبيعتها، دون تزيين، أو صقل، أو هالة تصنعها شاشة كاذبة، وبعضٍ من آثار بصمات من رحلوا، وتركوها في خطوطهم، وتعرّجات حروفهم، ورشاقتها، وحتى في بعض أخطاء رسمها، ودفء كلماتهم، وصدق مشاعرهم، بلا تلوّن، ولا رياء، ولا قوالب مصطنَعة، أو منقولة، أو محوّلة!
أرهقني التجوال؛ إلى أن بتّ لا أرى منها شيئًا؛ فغمام الدمع أخفاها، ومطره المنهمل؛ كاد أن يذيب تلك الحروف المرسومة بالحبر؛ الذي ما إن تسقط عليه؛ حتى تحيله إلى دائرة ذات أشعة، تخالف كيمياء الضوء؛ في أنها تُخفي ولا تُظهِر!
البارحة؛ بحثت عن بعض مناديل أهدتني إياها زميلات الدراسة؛ مضمخة بعطر قديم، ومطرزة بخيوط الوفاء، والوعد بعدم النسيان، لا تستغربوا فقد كنا نتهادى تلك المناديل المصنوعة من قماش شفّاف يُقال له التُّلّ، تُطرَّز عليه ورود بلون أزرق، ثم تطوى طيًّا أنيقًا، وتُضمَّخ بالعطر،
توقفت عند بعضها لراحلات غادرن دنيانا، وتركنها تنخر في قلبي، وتغرس فيه حنينًا لا يغادر!
والبارحة بحثت في أوراقي، واحتضنتها بشغف العاشق الذي أضناه الاشتياق، والاحتراق، أوراق، وكتب؛ فيها عطر الذكريات، ووجوه الراحلين، وبعض الأوفياء من الباقين!
وأنا غارقة في دنياي النابضة بكل ذاكرة الحواس، وخفقات القلب؛ وحفيف أوراق الشجر المتساقطة حولي، وحفيف آخر يمعن في العبث في جدار القلب لا تستطيع منه فكاكًا؛ جاءتني تلك النقرة على لوحة مفاتيح صماء، أُرسِلَتْ من هاتف ملوّث بالإشعاعات، ومحكومة بما تبقّى من رصيد، وبما تبقّى من حزم تنمّ عن تغول شركات الاتصالات واحتيالها، وصادرة من إبهام يد غير عابئة بي، وربما لا تعرفني، ولم ألتق بها في حياتي، وقد أكون التقيتها لقاءً عابرًا، ونسيتها، وليس بينها وبين المشاعر علاقة، وأُرسِلت لآلاف غيري، تحمل أبياتًا من شعر بلا شعور من (شعرور)، أو تحمل آراء نقدية تعبر فقط عن الإعجاب عبر كلمات موغلة في الغرابة، وليس بينها وبين النقد علاقة، هدفها التقرّب و(الحركشة)، وما أكثرهم!
ورسالة تسأل عن خصوصيات لا تعنيهم، ورسائل تضع السمّ في الدسم، ورسائل صمّاء تائهة لا تعرف وجهتها، وعبارات منمقة مزركشة، وتحية تقول؛
صباح الورد يا وردة، ويا حلوة (مع أنني لست وردة، ولا حلوة، وأكل الدهر عليّ وشرب)!