كافة الحقوق محفوظة © 2021.
قراءة في رواية ( قبس في مدن عاهرة ) ..للكاتب حسين الذكر
منلوجيا الخلاص .. وادانة الواقع !!
أ. محمود الهاشمي
حاولت كثيرا ان اتجنب امرين مهمين قبل الولوج في الكتابة عن رواية قبس في مدن عاهرة لمؤلفها الأستاذ حسين الذكر ..
الأول علاقتي الخاصة بالكاتب و التي تمتد لسنوات طويلة في العمل الصحفي .. فضلا عن معرفتي بواقعه الاجتماعي والثقافي والقيمي ..
الثاني .. تجنب العنوان ( قبس في مدن عاهرة ) حيث ان مفردة ( عاهرة ) اشبه ما تكون بالصدمة للقاريء الذي بحمّل هذه “الكلمة” الكثير وربما تضبّب عليه ما سوف يطالعه في متن الرواية من احداث مهمة لما تحمله من معان وخلفية لدى المجتمع والقاريء بصورة تجعله يصب جل اهتمامه، خاصة وان الوشيجة بين مفردتي ( قبس ) و( عاهرة ) تحتاج الى فهم خاص ورؤية تتعدى العلاقة بين النور والظلام .
ما علينا الاعتراف به ، ان اللغة التي كتب بها حسين الذكر روايته هي ذات اللغة والأسلوب الذي يعتمده في كتاباته العامة ، بما في ذلك اعمدته الصحفية ( الرياضية والاجتماعية والسياسية والثقافية ) التي داب على كتابتها بمختلف الصحف المحلية والعربية .. وهذا اقرار مسبق يحسب (لحسين الذكر ) اذ كتب بادواته وريشته وافكاره دون ان يمد يده الى اناء غيره .
الرواية التي نحن بصددها ( قبس في مدن عاهرة ) .. ممتعة في القراءة . وبالامكان ان تطالع كل عنوان فيها دون الحاجة الى المواصلة ، لان الفكرة تنتهي حيث ينتهي العنوان ولو لصفحة واحدة ، وهكذا حتى نهاية العمل.
اللغة التي استخدمها في الرواية ( واحدة ) وهذا يحسب للكاتب ، فالسطر الأول بالرواية يقول ( لم يكن من نباتات فطر الطبيعة ، فقد نطقت به تشققات سطح القرية بعد زخات مطر وموجات صقيع ) .. واخر اسطر في الرواية ، تقول ، ( كانه وحي ملائكي يعزف الحان الوداع مع زخات مطر رعدي هطل كجيثوم سماوي ) ..
لم يكتب المؤلف على غلاف العمل انه رواية ولا قصة لكنه حينما اهداني نسخة من العمل قال “هذه رواية “.. فيما هي اقرب الى مجموعة قصص قصيرة بخمسة وعشرين عنوان وبعدد صفحات بلغ ( 160 ) صفحة وهذه القصص من الصعب فصلها عن بعضها لانها تحمل ذات الأسلوب واللغة والفكرة وطريقة التناول أيضا فيما يربطها ( سر ) هو ( الابداع ) المتجلي في كل سطر وانتقاله من موضوع لآخر .
جميع القصص في ( الرواية ) اشبه ما تكون ( بالحلم ) وعوالم متخيلة ، لكن الراوي يتحدث وقد جعلها كانها حقائق ، يحرك ابطالها وشخوصها وامكنتها بمهارة عالية ، وسرد فيه انتقائية متقنة لكل مفردة .
سوف نتوقف عند اول قصة و التي بالإمكان ان تكون لنا انموذجاً لجميع القصص الأخرى والمبنية على افتراض المكان وغياب الزمان ، وعرض واقع مجتمعات تعاني الظلم ثم ليأتي بطل اسطوري يحمل كل صفات التغيير، لكن هذه “الأمم ” أو “المجتمعات “تتفاعل معه الى حين ، ثم سرعان ما تخذله وتعود الى فواجع حياتها التي دابت عليها كل حين ..
القصة الأولى اسمها “الظهور الأول” و التي بدا فيها الكاتب بوصف البطل وما يحمل من استثنائية فهو :
1- لم يكن من نباتات فطر الطبيعة .
2- لم يكن نيزكا سماويا .
3- 3- كان وجها لم تالفه ازقة المدينة .
4- هذا البطل الاستثنائي حمل معه معاني التطور والحضارة والرغبة بالتغيير ( استحضر في جعبته حقب الحضارة ) ودخل الى احدى مدن الكاتب المفترضة ( العاهرة ) بعد اسهاب طويل في وصفه والتركيز على استثنائيته ، بالقول ( قدماه مسترسلتان تعبر الزمكان ) .
هذا البطل سرعان ما يكتشف واقع المدن التي يدخلها ويتفاعل مع احداثها وشخوصها ( ادار راسه باتجاهات الحدث ) و( قبض بانامله الرحيمة على يد امراة مسنة ، رمتها براثن الاسنان في مستنقع رذيلته ) .. هذا اللقاء لبطله مع أبناء المدن المتخيلة يتمدد على جميع القصص الأخرى وما ان يقول كلمته التي تحمل معاني ( الحق ) .. ( والعدالة ) وضرورات ( التغيير ) … وكيف انها تحدث ( الصدمة ) في هذه الأمم المتعبة ( كانه زلزال ناطق ينفث غضبه ) .. مثل ( ان الامة التي تكون جذورها هجينة غائرة الضياع في بطون غير معروفة يصعب عليها اثبات توجهها العقائدي )
ليس مهم ان نعرف مدلول المقولة بقدر معرفتنا ان البطل يمتلك فكرا وعقلا متميزا ورغبة في التغيير والقضاء على الظلم ، لكن حكمته هذه لم تأخذ مدى اكثر من محيطه المتروي ، هكذا ينتهي دور البطل الى ضحية ، حينما يلتقي مع الارملة التي قبض على يدها وسارا معا ، ( جلس قبالتها شاركها البكاء ثم رثى حاله وحالها ) .
الأستاذ حسين الذكر في عمله هذا يرى ان الأمم الجاهلة غالبا ما تقع فريسة ( الدجل ) الذي يمتهنه ،شخوص محترفون ومن خلالها يهيمنون على مصير الأمم ومصادرة قرارها .
فيما يحاول ان يرسم صورا كاركاتيرية لهؤلاء ، ولنقرا معا هذا النص في قصته ( صومعة البطيخ ) .. ( استيقظ ذات صباح على صيحات وجلبة انبعثت من وسط معمعة مدينة انصاف البطيخ التي بدت واجمة حد الحزن ) . الى ان يقول ( وقد تقلنس كل منهم نصف بطيخة وضعت على رؤوسهم تبين لاحقا انها تدل طقوس عبادية ) .. ويستمر في تصوير ( الطقوس ) وكانك عند احد قبائل افريقيا من قرع الطبول والعزف والتناسق في الوقوف ، دون ان يفوته في ابداء وجهة نظره عبر ما يرد على السنة العامة الذين غالبا ما ينحاز لهم خاصة فئة الفقراء ( مشاهد لا تمثل جديدا لهم او تبنيء بامل بالافق يغير أوضاعهم ) .
ان مشاهد الطقوس وحركة المؤدين لها وتفاعل الاخرين معها فيه الكثير من الحيوية والمتعة بالإضافة الى ان تلك العوالم التي هي من خيالات الكاتب على خصوبة الفكر وسعة الخيال ، فيما تجد ان الكاتب قد وظف اللغة بشكل يثري الحدث ويجعل القاريء يدخل في عالمين من واقع ومتخيل غريب وسرد رومانسي تتدافع فيه الجمل والكلمات بانسيابية وسلاسلة ( لم تكن الشمس تلم اطراف مملكتها الشاسعة الممتدة من فضاء الحواس حتى طوباوية التفكير ، فقد أبقت بعض خيوطها اليوم على قارعة الطريق ) .
ان الثيمة الأساسية للعمل يرتكز على معادلة الصراع بين ( الخير والشر ) وقد يكون واضحا في عنوان ( شيطان في المدينة ) .. حين يؤكد ( تداول الناس خبر منازلة الحكيم والشيطان ) .. كما لا ننسى ان الكاتب أحيانا يفلت من مدارات خيالاته ولغته الرومانسية الى الواقع الذي يعيشه بكل تجلياته ووضوحه مستخدما تراكيب مثل ( ازلام الجبل ) كقرينة (ازلام النظام ) وما شاكلها … كما وردت استخدامات قرآنية مثل ( سكارى وما هم سكرى ) ( وطاغوت) و(وآية ) وجئتكم بقبس للتذكير بالاية الكريمة ( اني انست ناراً لعلي اتيكم منها بقبس ) ..
رواية “قبس في مدن عاهرة “حملت اوجاع الامة واضطرابها وبؤسها وبحثها عن لحظة ( الخلاص ) وفيها اتقاد لاذع وسخرية من جميع العادات والتقاليد التي تراكمت مع الازمان لتتحول الى جبل يجثم على واقع الشعوب ويسلبها ارادتها وقرارها ، وقد عرض المؤلف هذا الواقع الذي غلب عليه الخيال واللغة الرومانسية بشكل ينم عن دراية ودربة وتحكم في متابعة الاحداث والشخصيات الواردة في النصوص وكانك مدعو لان تدخل هذا العالم السحري المليء بالابداع والحكمة .