كافة الحقوق محفوظة © 2021.
ما الذي حدث للعراقيين… تجليات غاضبة من الملاعب إلى البرلمان؟
سراب سبورت _
حظي العراق بفريق كرة قدم متميز في سنوات سابقة، ولم يعد الأمر كذلك لسبب أو لآخر، وهذه طبيعة الأمور ويحدث ذلك مع جميع فرق العالم، عربية وغير عربية، الإيطاليون الذين رفعوا كأس العالم لأربع مرات، فشلوا في التأهل للبطولة لآخر نسختين، ولكن بعضا من الأشقاء في العراق اتخذوا مواقف متشنجة على هامش مبارياتهم مع المنتخبين الأردني والفلسطيني، في تصفيات كأس العالم، وعملت بعض الأطراف على استثارة الفتنة بفبركة تسجيل مرئي لهتافات مسيئة من الجمهور الأردني والفلسطيني في استاد عمان، بعد فوز منتخب فلسطين على نظيره العراقي، وكنت ممن وصفوا التسجيل بالمسيء، واستهجنت التصرف قبل أن يرسل أحد المتابعين لصفحتي ما يثبت عدم صحة التسجيل من أساسه، وهو ما استدعى أن يصدر الاتحاد الأردني لكرة القدم بيانا حول التسجيل المزيف.
يذهب أحد المفكرين المصريين، إلى أن العراق هو الدولة العربية التي تقاطع على أرضها طرفا معادلة الثروة الطبيعية والبشرية، بمعنى توافر النفط والمياه، وفي الوقت نفسه مؤونة بشرية تجعلها دولة متوسطة الحجم
تواصلت الحملات الإعلامية لتغذي حالة من التراشق بين الجماهير، منذ كأس آسيا الأخيرة في قطر، وفوز المنتخب الأردني واستكماله طريقه إلى المباراة النهائية، ويبدو أن بعضا من الأطراف في العراق أخذت على عاتقها تسخين المشهد على المستوى الإعلامي، وخرجت الاتهامات من حيز الملاعب والإعلام الرياضي، لتصل إلى البرلمان العراقي للمطالبة بقطع إمدادات النفط العراقي شبه المجاني عن الأردن، وهو ما كان يتم فعليا ضمن اتفاقية يحصل بموجبها الأردن على نحو 7% من احتياجاته النفطية بخصم يصل إلى 16 دولارا على البرميل، وليس مجانا على أية حال.
الوصول إلى هذه المرحلة أخذ يزعج الأردنيين، الذين يستغربون وضعهم في قفص الاتهام والتحريض عليهم في أوساط المؤثرين العراقيين، خاصة أن جيلا واسعا من المراهقين والشباب العراقي، غير مطلع على تاريخية العلاقة التي تزيد عن مئة عام بين البلدين، ليجول في الأردن سؤال كان يفترض أن يطرح في العراق أولا، وهو ما الذي حدث للعراقيين؟
يذهب أحد المفكرين المصريين، إلى أن العراق هو الدولة العربية التي تقاطع على أرضها طرفا معادلة الثروة الطبيعية والبشرية، من بين الدول العربية جميعا، بمعنى توافر النفط والمياه، وفي الوقت نفسه مؤونة بشرية تجعلها دولة متوسطة الحجم، وهو ما لا يتوفر لدول الخليج العربي، ولا لدول أخرى مثل سوريا ومصر، وكان طبيعيا أن يستثمر العراق في الإنسان في مرحلة الستينيات والسبعينيات، لتشيع المقولة الشهيرة إن الكتاب يُؤلف في القاهرة، ويُطبع في بيروت، ويُقرأ في بغداد، وتصاعدت مستويات التنمية البشرية، بعد تأميم النفط العراقي سنة 1972 وأخذت مظاهر المعاصرة تصبح شائعة في العراق، وعلى المستوى الثقافي، كان العراق هو الذي يقود قاطرة الحداثة في الدول العربية، ويخرج منه جيل نوعي من المثقفين، يسعى إلى تجاوز المكرس تراثيا، لتنشغل مؤسسات النقد المكرسة في القاهرة بالحدث الثقافي العراقي وثورته المشهودة في ذلك الوقت. ثم أتت حرب الخليج الأولى ليضع العراق مئات الآلاف من أبنائه على مذبح القرابين البشرية، ويصبح الفاقد البشري الذي استفاد من نهضة الستينيات والسبعينيات، أوسع من أن يتم تعويضه، وتلحق حرب الخليج الثانية والحصار الممتد على العراق، الذي جعله يفقد القدرة على أداء واجباته التنموية، لتنحصر أدواره على توفير استدامة الحياة في حدودها الدنيا في بلد عربي ثري، يمتلك مختلف مقومات المنعة resilience بمفهومها التنموي، وبعد الاستنزاف الاقتصادي المتواصل يأتي سقوط بغداد وتفكيك الدولة العراقية، بعقيدة انتقامية مع الحاكم الأمريكي بول برايمر، واجتثاث البعث، ليدخل العراق في نفق أسود من العنف، يستدعي الطائفية كوسيلة لتحقيق الأمن والفرز المجتمعي، ويصعد جيل جديد من السياسيين الذين يتجاوبون مع غرائزية الجماهير السياسية من غير أن يمتلكوا الخبرة الكافية في التصدي للمشكلات الواسعة التي تبدأ من الجانب الإداري وتلقي بآثارها السلبية على المجتمع ككل بمختلف فعالياته الاقتصادية والثقافية. العراق بلد ثري ومتنوع ثقافيا، فمنذ العصور الوسيطة وهو مقصد للمهاجرين القادمين من مختلف أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، ولكنه لا يقع في منطقة هادئة، ففي الوقت نفسه، يشكل مطمعا لجواره الجغرافي، خاصة في إيران لأسباب تاريخية وقديمة منها، التداخل بين البلدين حول روافد المياه الغزيرة، وتركيا في العصر الحديث التي ارتأت أن حصتها من الأرض لم تكن مناسبة لتاريخها الإمبراطوري، وبقي العراق المتشكل كدولة حديثة في خرائط المظلومية التركية، كما أن العراق بموقعه وثرائه، بقي دائما هدفا أكبر من أن يترك للقوى الاستعمارية العالمية بنسختيها الكلاسيكية والحديثة، ومواجهة هذه الوضعية كان يتطلب دائما وجود قيادة تستطيع أن تشكل تعاليا على جميع التناقضات، وهو ما تمكن صدام حسين من إنجازه لبعض الوقت، إلا أنه لم يواصل طريقه، بل وقع في السقطة الساذجة نفسها للديكتاتور العربي، خاصة عندما يجد أمامه من الثروات والإمكانيات ما يعطي المجال لنزواته وخيالاته في مجتمع غير ديمقراطي لا يمتلك أدوات النقد من الأساس، فلا يمكنه التقويم أو التغيير.
سيعود منتخب العراق قويا، الأمر ربما يتطلب مدربا جديدا ليس أكثر، ولكن ما يحتاج إلى الفهم هو حالة من الغضب المكتوم داخل العراق، الذي يجعل بعض العراقيين ممن لم يعايشوا الزمن السابق بمنجزاته ورياديته يعيشون في زاوية ضيقة من التشكك والارتياب والانغلاق، ولذلك فربما من المناسب أن يبدأ المفكرون العراقيون في هذه المرحلة في التساؤل حول الذي حدث للعراقيين على شاكلة ما قدمه الدكتور جلال أمين في سؤاله عن المصريين، وربما على كثير من العواصم العربية أن تطرح السؤال نفسه، في أزمنة التراشق والمناكفات التي تطل برأسها، وتجعل الفضاء الافتراضي ساحة لقبلية انعزالية تنحي جانبا أية فرصة لتحقيق الاعتمادية المتبادلة بين الدول العربية، التي تعد المنطقة في أمس الحاجة لها نظرا لاتساعها، بما يجعل عملية التحشيد للإمكانيات والفرص ممكنا وقائما.
كاتب أردني
المصدر:القدس العربي