سراب سبورت
مجلة رياضية

ماراثون بيروت… ولادة مدينة تغلب موتها 15 ألف مُشارك يشهدون على أنّ خطّ النهاية ليس سوى انطلاق جديد

سراب سبورت _

لم تستيقظ بيروت، فجر الخميس، لتفتح عينيها على يومٍ عادي. استيقظت لتنهض من رمادها، وتُعلن مجدّداً تغلُّبَها على موتها. الساعة الرابعة قبل الشروق، بشَّرت موسيقى تسبق الشمس في الوصول بيومٍ ستحفظه الذاكرة.

ماراثون بيروت لم يكن يوماً مجرّد سباق. هذا العام تحديداً، هو نداء داخلي وصرخة حياة بعد زمن من الصمت. ما تأجَّل في نوفمبر (تشرين الثاني)، حين كانت المدينة تحترق، والوطن يئنّ، جاء اليوم ليولد من جديد في الأول من مايو (أيار)، كأنه عناد بيروتيّ بوجه الأقدار المُباغِتة. كأنَّ المدينة تقول: «أنا هنا، ما زلتُ أركض وأحلم».

في الواجهة البحرية، تجمَّع الناس. كل الأطياف؛ مَن يُشبهك ومَن لا يُشبهك؛ مَن يحمل جرحاً صغيراً، ومن أتى بجراحٍ لا تُحصَى. اجتمعوا ليركضوا معاً، لا نحو النهايات، وإنما نحو بدايات جديدة. فالركض في بيروت لا يُقاس بالأمتار. مقياسُه المعنى. هو فعلُ تحدٍّ ضدَّ السقوط، وحركة ضدَّ السكون، وإرادة أقوى من التعب.

امتلأت الشوارع بعدّائين تركوا خلفهم كل ما يُثقِل. لم تعُد الشوارع للشاحنات والأنين، وإنما للأقدام الحافية أحياناً وللقلوب المُشتعلة. هو يومٌ للذين لم يعرفوا قُدراتهم بأكملها، وللذين اختبروا الخسارة والنجاة، ولأولئك الذين يسيرون بذاكرة نازفة، أو بأمل أخير.

والركض يتجاوز كونه مسألة عضلات، فيبني علاقة مع الحياة. هو مواجهة مستمرّة مع الإرهاق، وإيمانٌ بأنَّ الألم يمكن أن يُنجِب المعنى. والعدّاء لا يهرب من الألم، بل يتقدَّم إليه. يلتهمه، ويصعد به، لأنه يعرف أنَّ المعاناة تُطهِّر، وأنَّ كل وجعٍ يُقرّب خطوة من الذات؛ ومن الحقيقة.

والركض أيضاً ليس رياضة فقط. الأهم أنه انكشاف. لحظة تُصغي فيها إلى صوتك الداخلي، وتكتشف كم من المعارك تخوضها في صمت. في كلّ خطوة نرمي أحمالاً، ونتخفَّف من قسوة العالم. نركض كي نتطهَّر من الضجيج. من الخذلان. من الركود العاطفي. ومن الخوف. فالركض، حين يكون صادقاً، يُقرّبك من نفسك أولاً، قبل خطّ النهاية.

نركض لنتذكّر أننا أحياء، وأنَّ الجسد، بكلّ ما فيه من ضعف وتعب، لا يزال قادراً على الاستمرار. وأنَّ القلب، رغم ثقله، لا يزال يعرف كيف يخفق. نركض لنتواضع؛ فالركض يجعلنا نرى الآخرين كما لم نرهم من قبل. كلنا متساوون على الطريق. لا شيء يُفرّقنا سوى مقدار ما نحمله من أمل.

والركض يُعلّمنا كيف نصغي، كيف نُثابر، كيف نحبّ الحياة رغم أوجاعها. يجعلنا نُبطئ لنفهم، ثم نُسرِع لنحيا. هو فعل وجودي. تمرين على أن نكون أفضل، في أجسادنا ونظرتنا للآخر، وفي علاقتنا بالزمن وبالمكان، وبأنفسنا.

في الركض، نتعلّم أنَّ الانتصار الحقيقي ليس أنْ نصل أولاً، بل ألا نتوقَّف عن المحاولة. أنْ نُكمل رغم العرق والألم وكلّ ما يدفعنا للاستسلام. نركض لنصبح أكثر إنسانية، وأكثر قرباً من المعنى.

السادسة والربع صباحاً، انطلق السباق: 42 كيلومتراً لعدّائي الماراثون، و21 أخرى لمَن اختار نصف الطريق. لكن لا أحد قطع نصف الشعور. جميعهم حملوا قلوباً ثقيلة وعيوناً تنظر إلى البعيد، حيث الوطن الذي يستحق أن نركض من أجله، لا أن نهرب منه.

كانت الساحة تعجّ بعيونٍ لم تعرف النوم، وأجسادٍ بالكاد استراحت. فماراثون بيروت ليس سباقاً عادياً. هو استحقاق روح وولادة ثانية. وهو إثبات للذات، وإعلانٌ بأنَّ لبنان لا يزال يملك ما يقدّمه. وتحت شعار: «تعوا نركض من النهاية للبداية ليبقى لبنان»، أُقيم السباق. شعارٌ كُتب بحبر الألم، لكنه نُطِق بصوت الأمل، تماماً مثل صوت الفنان ملحم زين وهو يغنّي أغنية هذه النسخة، «مِنْقلها للدني نحنا ما مننحني»، من كلمات نزار فرنسيس.

برعاية رئيس الجمهورية جوزيف عون وحضور رئيس الحكومة نواف سلام، نظّمت جمعية «بيروت ماراثون» سباق «أو إم تي بيروت ماراثون» في نسخته الـ21. رئيستها، مي الخليل، لعبت دوراً محورياً في إنجاح الحدث. هي التي لطالما حملت على عاتقها مَهمّة جمع اللبنانيين على أرض واحدة، ليُثبتوا معاً أنَّ الحياة لا تزال ممكنة، والأمل حيّ في قلب بيروت.

15 ألف عدّاء وعدّاءة من 38 دولة، احتشدوا في لحظة متوهِّجة. كان المشهد فعلَ مقاومة ضدَّ الحرب والتقسيم. فالماراثون، بما فيه من عرق ودموع، شكَّل ساحة سلام، وخريطة لوطنٍ يُرسم من جديد.

ثم أتى سباق الـ5 كيلومترات لتكتمل الصورة. هذا ليس سباقاً للسرعة، وإنما للمُشاركة. سباقٌ يحمل أصوات مَن لا يُسمَعون دائماً: ذوو الحاجات الخاصة، الناشطون، الحالمون، أولئك الذين ما زالوا يؤمنون. هو الركض من أجل العدالة، من أجل البلد القابل للحياة، من أجل أن يُسمَع الصوت، لا أنْ يُكتَم.

7 ساعات من الحماسة والعزيمة والوجوه التي تلمع بالعرق وتبتسم رغم كلّ شيء. وجوهٌ ترفض الخنوع. شخصياتٌ من مختلف القطاعات شاركت، وجمهور احتشد ليشاهد، ولكن أيضاً ليؤمن من جديد. شاشة «إل بي سي آي» نقلت المشهد الصاخب، وموسيقى الجيش عزفت النشيد، وأصوات الفنّ والرقص ملأت الفضاء.

لكن ما بقي بعد كلّ هذا؟ ما يبقى هو النبض. هو هذه الشعلة التي تُضاء كلَّ ماراثون. هو الإيمان بأنَّ بيروت، مهما تهدّمت، تعرف طريقها إلى الحياة. وأنَّ الركض، في النهاية، ليس هروباً من الدمار، وإنما ذهابٌ إليه؛ لمواجهته، وتحويله إلى معنى.

بيروت تركض لتثبت أنها جديرة دائماً بالأمل. كلّ خطوة تُحرّك حجراً من الركام، وكل نَفَسٍ يُبدِّد دخان حرائقها. ومن بين أنقاض الوحشة والخذلان، تولد مدينة جديدة. مدينة تركض من النهاية إلى البداية، من الوجع إلى الشفاء، ومن الخسارة إلى العَوَض. في بيروت، لا تنتهي القصص. نحن شهود على أنها ستظلُّ تُروى.

المصدر::الشرق الأوسط

اقرأ ايضاً
أخبار عاجلة
انطلاق دورة “تكنو شباب 2025 – الفوج الثاني" منتخب الناشئين لكرة السلة يخسر ودّياً أمام تجمع القاهرة استعداداً لغرب آسيا تعيين المصريين شريف وائل وندى أيمن ضمن الجهاز الفني لمنتخبات الجمباز الأردنية رئيس اتحاد الكاراتيه يرد على الاتهامات: النجاح لا يُقاس بالشهادات فقط بل بما نُنجزه ونبنيه منتخب النشميات يحقق فوزاً عريضاً على سنغافورة بالتصفيات الآسيوية "حماس ولياقة ومسؤولية.. معسكر رياضي شبابي يختتم فعالياته في مركز شباب رحمة" "سراب سبورت" تنعى شقيق الرئيس التنفيذي لمركز السلطان للفروسية الشيخ بندر الفايز الفارسة الأردنية بيلسان اللحام تتألق في بطولة الإمارات الصيفية وتستعد لتمثيل الأردن في المحافل الدول... رياضة وتطوع وانضباط.. شباب الوسطية يختتمون معسكرهم بنجاح لافت شباب إربد يتسلحون بالمهارات التقنية في معسكر تدريبي شامل ضمن "عمان عاصمة الشباب العربي 2025" "ختام حافل للحيوية والنشاط في معسكر شباب عجلون الرياضي" أمين عام اللجنة الأولمبية… قرارات بالمزاج وواسطات بالعائلة؟ ‏خبير علم النفس الرياضي الدكتور برايان شو ينضم إلى الجهاز الفني لمنتخبنا الوطني للرجال "لاعب دولي مزعوم!" تحركات لاعبين تكشف مخالفة صريحة في اتحاد لعبة جماعية براعم "الأخضر" للطائرة يدشّنون مشاركتهم الآسيوية بمواجهة الصين تايبيه "جلسة حوارية في مركز شباب القويرة تؤكد: المواطنة الصالحة أساس المجتمع المتماسك شالورت الأبيض تتألق في تركيا وتُحقق أرقامًا دولية جديدة في بطولة "كأس حسين مانو أوغلو" فارس الأمل.. آدم تامر الحلو يتعرض لموقف يثير التساؤلات في بطولة القفز! يافطات... ومياومات! بانوراما نشاطية مبهرة في مراكز شباب إربد: إبداع، تقنية، تطوع وتمكين في يوم واحد! زين ترعى سباق الحسين لتسلّق مرتفع الرمان 2025 نائب الملك يحضر فعالية "اليوم الأولمبي" في جرش جدل حول تنظيم بطولة آسيا للمبارزة: تغيير مفاجئ في موقع الاستضافة يثير تساؤلات "الجواد العربي يعتلي القمة في افتتاح دوري القفز عن الحواجز 2025.. والصهيل يترك بصمته تنظيماً وتتويجا... دانية السعود تحصد المركز الأول بتخصص السمع والنطق التطبيقي في جامعة الزرقاء رياضة وتطوع وتحدي.. شباب الوسطية يشعلون حماس معسكر النشاط البدني شباب صخرة يلتقون بقيادات المجتمع: عقول واعدة تصنع التغيير أصالة ومرح في ساحة اللعب: شابات عجلون يحيين تراث الألعاب الشعبية" "عاصمة الشباب العربي.. نموذج أردني في تمكين الأجيال الشابة... د. شوقي أبو قوطة "إلى متى التهميش؟"… لاعب بارالمبي من إربد يُقصى رغم تصنيفه الدولي الأول