كافة الحقوق محفوظة © 2021.
الأردن والعراق: لقاء الأخوّة في زمن الاستهداف
أ.د. زياد محمد ارميلي أستاذ جامعي كلية علوم الرياضة الجامعة الأردنية
تتجه الأنظار بعد أيام أيام إلى العاصمة الأردنية عمّان، حيث يستضيف منتخبنا الوطني الأردني شقيقه المنتخب العراقي في مباراة ليست بمصيرية وإنما(إحتفالية) بعد ان ضمنا التأهل إلى نهائيات كأس العالم 2026، وهي مباراة رياضية بامتياز، لكنها أخذت للأسف في الأيام الأخيرة طابعاً مختلفاً، بعد أن تصاعدت حدة التراشق اللفظي بين بعض جماهير المنتخبين، وأقولها( بعض) وخرجت المنافسة من إطارها الرياضي إلى مستوى خطير من التجييش والفتنة، تقوده أطراف خفية عبر وسائل التواصل، تقتات على لحظات الانفعال وتحويلها إلى خصومة شعبية.
ما ستشهده عمّان بعد أيام ليس مجرد تسعين دقيقة على العشب الأخضر، بل هو اختبار حقيقي لمدى وعينا الجمعي، وقدرتنا كأردنيين وعراقيين على الحفاظ على أولوية العلاقة التاريخية، ووحدة المصير المشترك، فوق أي اعتبار رياضي مؤقت. فالمباراة مهما كانت نتيجتها، تبقى ضمن دائرة التنافس الشريف، أما الانجرار خلف موجة الشتائم، والتشكيك، والتجييش العاطفي، فذاك طريق لا يخدم إلا أعداء الأمة، أولئك الذين يسعدون كلما اقتربت الشعوب العربية من الاقتتال ولو بالكلمات.
إن ما يجمع بين الأردن والعراق أعمق بكثير من أن تهزه صافرة حكم، أو تفرقه نتيجة مباراة. فالأردن كان وما يزال ملاذًا لآلاف العراقيين في سنوات الحرب والاحتلال، استقبلهم بكل حب وكرم، والعراق لم يبخل يومًا في احتضان الأردنيين في سنوات العطاء، حين كان منارة في التعليم، والطب، والهندسة، والفكر. هي علاقة امتزج فيها الدم بالنسب، والنضال بالمصاهرة، والموقف بالمصير، علاقة لا يمكن محوها أو تشويهها ببضع تغريدات مسمومة أو مقاطع ساخرة على السوشيال ميديا ونحن نعلم من هم وراءها
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن موقف الأردن، بقيادته الهاشمية الحكيمة، كان على الدوام منحازاً لقضايا الأمة، ومدافعًا عن وحدتها، وداعياً لتجاوز الخلافات، وتقديم مصلحة الشعوب على أي حسابات آنية. وقد كان جلالة الملك عبدالله الثاني صوتاً عربياً نقياً في المحافل الدولية، يذكر دوماً بأن وحدة الصف العربي هي خط الدفاع الأول في وجه التحديات الإقليمية والدولية، وأن قضيتنا المركزية فلسطين هي المعيار الذي تقاس به المواقف، وأن الخلاف لا يليق بأمة تنزف في غزة، وتحلم بالتحرر والكرامة.
وفي خضم كل ذلك، لا يمكن تجاهل ما يحدث في غزة. هذه الحرب الوحشية المستمرة منذ شهور، التي يواجه فيها شعب أعزل أعتى آلة حربية، يجب أن تكون حاضرة في وجدان كل عربي، بل ويجب أن تكون كافية لتذكير الجميع بأن الخصم الحقيقي ليس بيننا، بل هناك، في الأرض التي تقصف صباح مساء. إذا كانت أصوات بعض الجماهير ترتفع اليوم في التلاسن، فإن صوت غزة يجب أن يكون أعلى، يصرخ في وجوهنا جميعًا: اتحدوا. آن للأردني والعراقي، كما لكل عربي، أن يدرك أن ما يجري في فلسطين يحتاج منا وقفة مشتركة، لا انشغالاً بصراعات وهمية.
إن لقاء المنتخبين في عمّان فرصة عظيمة لتأكيد وحدة الصف العربي، لا لتأجيج الفتن، والرد الحقيقي يجب أن يكون عبر مشهد جماهيري حضاري، يحتفي بالضيوف، ويرفع من قيمة الرياضة كأداة للتقارب والتسامح. إننا نحذر من محاولات أطراف خارجية، تستغل كل فرصة لضرب نسيج الأمة، وتبحث عن أي شرارة لتشعل نار الفتنة بين الشعوب العربية. هذه الأطراف تعمل في الخفاء، وتغذي الانقسام، وتحرّك جيوشًا إلكترونية لبث الفوضى العاطفية. فهل نمنحهم الفرصة؟ هل نسمح لمباراة أن تهدم ما بنته سنوات الأخوّة والدم المشترك؟ وهل نغفل عن معركة الأمة الحقيقية في غزة، لننجر إلى معركة وهمية في مدرجات الملاعب؟
الجماهير الرياضية الأردنية والعراقية مطالبة اليوم برفع وعيها إلى مستوى الحدث. دعونا نشجع منتخباتنا بحب، لا بحقد. نحتفل بالفوز بكرامة، ونتقبل الخسارة بروح رياضية. نرفع أعلامنا من أجل الأمل، لا نشهرها في وجه إخوتنا. فالروح الرياضية لا تكتمل إلا بالاحترام، ولطالما كانت الرياضة جسراً للمحبة لا ساحة للفرقة.
يتحمّل الإعلام العربي المرئي والمكتوب والرقمي مسؤولية أخلاقية ومهنية في تهدئة الأجواء، لا صبّ الزيت على النار. فالكلمة الآن قد تشعل أزمة، وقد تطفئ فتنة. المعركة ليست على الميدان فقط، بل في منصات الإعلام التي تشكّل الوعي الجمعي وتوجهه.
قد تنتهي المباراة بفوز هذا المنتخب أو ذاك. لكن الأخوّة الحقيقية هي أن نخرج منها جميعًا فائزين: فائزين بمشهد راق يليق بشعبين عربيين عظيمين، وبقضية واحدة، وتاريخ طويل من الكرامة، وبموقف حضاري يثبت للعالم أننا أكبر من الفتن، وأوعى من أن تحرّكنا العواطف العمياء. فلتكن مباراة عمّان عرسًا كرويًا عربيًا، لا ساحة لخصومة مصطنعة. ولنتذكر دومًا: ما يجمعنا أكبر من كل خلاف، وأقوى من كل فتنة، وأعمق من كل نتيجة.