كافة الحقوق محفوظة © 2021.
“اراء شبابية” في حضرة النص وغياب العدالة: الحبس لا يصنع سدادًا
بقلم: ترتيل محمد الطراونة – باحثة قانونية في جامعة مؤتة
في ظل تسارع التحولات القانونية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها الأردن، بات من الضروري إعادة تقييم الأدوات التي يعتمدها المشرّع في إنفاذ الحقوق، وعلى رأسها نظام حبس المدين. فالممارسة أظهرت أن هذا الإجراء لم يعد متوافقًا مع المبادئ الدستورية ولا مع المعايير الدولية التي تكفل صون الحرية والكرامة الإنسانية. إن واقع التنفيذ اليوم يفرض علينا مواجهة حقيقة قانونية مؤلمة: أن الحبس لم يعد وسيلة فعالة للتحصيل، بل عبء قانوني واجتماعي يكرّس العجز ولا يرفعه، ويعمق الأزمات بدلاً من أن يحلّها.
يُطبّق حبس المدين في العديد من الحالات دون تمييز حقيقي بين المماطل والمتعثر، وبين القادر والفاقد للقدرة. تُفتح ملفات التنفيذ وتُقيَّد الحرية بقرارات رسمية، تستند إلى أوراق لا تُعبر دائمًا عن واقع الحال. المدين هنا لا يُعامل كطرف ضعيف يستحق الحماية القانونية، بل كأداة تنفيذ معلّقة على شرط الدفع، ولو كان مستحيلاً. هذه الممارسة تنسف المفهوم الإنساني للقانون، وتحيله إلى أداة ضغط قد تفقد معناها وشرعيتها.
الواقع يؤكد أن استمرار الحبس على النحو القائم لا يحقق سوى المزيد من الإضرار بالمدين، دون أن يقدم للدائن سوى وهم استيفاء الحق. فما الجدوى من حبس شخص لا يملك أصلاً ما يسد به دينه؟ وما الفائدة من إجراء يفصل الإنسان عن عمله ومصدر رزقه؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة في كل مرة يُصدر فيها قرار حبس لمدين معسر، لا يخفي أمواله ولا يتهرب من التزامه، بل هو محاصر بواقع اقتصادي لا يرحم.
تعديل القانون لم يكن كافيًا رغم بعض الإشارات الإيجابية التي حملها. فالحصر الجزئي لحالات الحبس لم يترافق مع بدائل عملية نافذة، بل ظل التنفيذ مرهونًا بإجراءات تقليدية لم تُحدّث بعد. المطلوب اليوم هو بناء سياسة تنفيذ مدنية جديدة، قائمة على التوازن بين حماية الحقوق المالية وضمان الكرامة الإنسانية، بعيدًا عن الحلول السهلة التي أثبتت محدوديتها.
إن القضاء الأردني يمارس دوره ضمن الحدود التي رسمها له القانون، لكن التحدي الحقيقي يقع على عاتق المشرّع الذي لا بد أن يتحرك لتعديل هذه المنظومة، بما يعكس روح العدالة لا حرف النص. فليس من المقبول أن تبقى الحرية رهنًا بمبلغ مالي دون مراعاة حقيقية للوضع المالي والاجتماعي للمدين، ولا أن يُختصر التنفيذ في خيار أوحد يحاصر الإنسان ويهدر طاقته وفرصته في التعافي.
ثمة بدائل أكثر فاعلية يمكن أن تُعتمد: كإلزام الوساطة قبل التنفيذ، وتفعيل خطط السداد القضائية، وإيجاد صندوق ضمان للديون الصغيرة، وتوسيع صلاحيات قاضي التنفيذ في مراقبة الذمة المالية للمدين بدلاً من إصدار أوامر التوقيف تلقائيًا. هذه الإجراءات يمكن أن توفر حماية للدائن دون أن تهدد حرية المدين، وتخلق مناخًا قانونيًا أكثر توازنًا وعدلاً.
المطلوب اليوم ليس مجرد تعديل شكلي، بل إعادة صياغة فلسفة التنفيذ نفسها. فالحبس يجب أن يكون إجراءً استثنائيًا يليه تدقيق دقيق وشروط محكمة، لا أن يبقى خيارًا أوليًا سهل الاستخدام. القانون لا يجب أن يقف على مسافة واحدة من جميع الوقائع فحسب، بل أن ينزل إلى واقعها ويقرأها بعين الإنسان لا فقط بقلم القاضي. وآن الأوان لأن نختار العدالة التي تحمي الحقوق دون أن تسلب الحريات.