كافة الحقوق محفوظة © 2021.
حوار بين المتنبي وأحلام الفلوجة: الثقافة.. والوظيفة المفقودة
حسين الذكر يكتب _
في ظهيرة جمعة صاخبة، كنت جالسًا في كازينو “حنش” وسط شارع المتنبي، أرتشف القهوة وأرتّب بعض تغريداتي، منشغلًا بكتابة أربعة أعمدة صحفية؛ اثنان للرياضة حيث تخصصي، وآخران لصحف عربية، أحدهما اجتماعي والآخر ثقافي.
ورغم أن أغلب كتاباتي بلا مقابل مادي، إلا أنني أكتبها بحب، يكفيني منها شعور أداء الواجب والتعبير عن الذات، وربما رضا الله.
فجأة، قطع عزلتي صوت شباب يطلبون الإذن بالجلوس. رحّبت بهم بسرور، إذ نادرًا ما أرى هذا الجيل يطلب النصيحة. عرفوني بأنفسهم: عمر، عثمان، عبدالله، وقاص، وحذيفة. كلهم من الفلوجة، وبعضهم طلبة جامعة وآخرون في المرحلة الإعدادية.
حين نطقوا اسم الفلوجة، شعرت بفرح مضاعف. هؤلاء الشباب قطعوا مسافة طويلة ليصلوا إلى كرنفال المتنبي، يبحثون عن المعرفة والثقافة.
بدأ الحديث بسؤالهم عن الإعلام. قلت لهم:
“الإعلام سابقًا كان وظيفة نخبوية، اليوم، بفضل التكنولوجيا وحرية التعبير، أصبحنا جميعًا إعلاميين بطريقة ما؛ ننشر، نتفاعل، نعلّق. هذا هو الإعلام الجديد.”
أعجبهم الطرح، فانهالت الأسئلة من كل صوب. ثم باغتتهم بسؤال:
“ما هو أقدس شيء على الأرض؟”
جاءت إجاباتهم متطابقة: “الكعبة المشرفة.”
ابتسمت وقلت:
“لا شك في قدسيتها، لكن الإنسان هو أقدس ما على الأرض. لأنه خلق الله الذي كرّمه بالعقل، وجعله في أحسن تقويم. فإذا انتهكت كرامة الإنسان، فقد انتهكت مقدسات الخالق.”
تدخل أحدهم، بنبرة يائسة:
“أستاذ، نحن ندرس بلا أمل، الوظائف شبه معدومة.”
أجبته بهدوء:
“هذه أزمة اجتماعية وفلسفية. أفضل الحكومات هي التي تقل فيها الوظائف وتكثر الخدمات. أما نحن، فغرقنا في بطالة مقنّعة. والمشكلة أننا ما زلنا نرى الشهادة مجرد جواز سفر للوظيفة، بينما الأصل أن تكون طلبًا للوعي، لا مجرد لقب أكاديمي.”
أضفت:
“أما العمل، فيجب أن نفعّل القطاع الخاص ليستوعب الأيدي العاملة المحلية، بدل أن نرى العراق مليئًا بعمالة أجنبية في ظل بطالة محلية خانقة.”
اقترحت عليهم فكرة بدت لهم مغرية:
“لماذا لا تؤسسون رابطة ثقافية في الفلوجة؟ ابحثوا في الوعي، المجتمع، الفن، الرياضة. مع الوقت ستكبر دائرتكم، وتصبحون قادة رأي حقيقيين.”
ابتسم عمر، لكنه طرح سؤالًا صادمًا:
“وماذا سنستفيد من الثقافة والشهادة إذا لم نتوظف؟”
أجبته بابتسامة:
“يقول سقراط: ليس مهمًا أن تتبوأ المنصب، بل أن تكون مستعدًا لشغله بنجاح. الرزق بيد الله، لكنه أمرنا بالسعي. والسعي الحقيقي يبدأ بالوعي، والوعي طريقه القراءة. اقرأوا، تواصلوا مع شباب العراق من كل المحافظات، وكونوا جيلًا يؤمن بحرية الفكر ومدنية المجتمع. بهذا وحده ننتصر على أمراضنا المزمنة.”
غادرت المجموعة، لكن كلماتهم بقيت في ذهني. بين ضجيج المتنبي ورائحة الكتب، وجدت بصيص أمل في خمسة وجوه جاءت من الفلوجة لتبحث عن النور.