كافة الحقوق محفوظة © 2021.
د.ثروت المعاقبة…مديرة” شباب العقبة” تكتب السكوت في مواضع الجهل حكمة، والصمت عن ما لا نعلمه علم
في عالمٍ تتسابق فيه الأخبار لتصل إلى شاشاتنا قبل أن نلتقط أنفاسنا، تصبح المعلومة مثل شرارة صغير، إما أن تضيء الحقيقة أو تشعل نار الشائعات، وبين الحقيقة والزيف، يقف وعيك كخط الدفاع الأول، فالتأكد من صحة ما نسمع أو نقرأ قبل مشاركته ليس مجرد خيار، بل هو مسؤولية تحمي بها نفسك ومجتمعك من فوضى المعلومات المضللة حيث باتت الكلمات تُقال دون تدبر، والآراء تُطلق دون علم، والتصريحات تنتشر دون وعي بعواقبها، ومن هنا تبرز أهمية المثل العربي القديم “لا تهرف بما لا تعرف”، وهو تحذير صريح من إطلاق الأحكام أو الخوض في مواضيع لا نملك عنها المعرفة الكافية، إن هذه المقولة ليست مجرد حكمة شعبية، بل هي دعامة أساسية من دعامات التفكير النقدي، واحترام العقول، والمسؤولية الاجتماعية، وهذه العبارة تمنحك درسًا عميقًا في التواضع الفكري والصدق مع الذات أولا وثانيا مع الآخرين، وتعني بشكل مختصر أن لا تتكلم في ما تجهله، ولا تدّعِ المعرفة فيما ليس لك به دراية، وهي دعوة صريحة لأن يتحرى الإنسان الصدق فيما يقول، وأن يُحجم عن الخوض في أمور ليست من اختصاصه أو لا يملك عنها معرفة كافية.
كثيرون يخلطون بين الحق في إبداء الرأي، والقدرة على تقديم المعرفة، فلكل إنسان الحق في أن يعبر عن مشاعره ومواقفه بالشكل الذي يراه مناسبا.
وهناك أبعاد متعددة للمقولة وأثرها على المجتمعات، فعلى سليل المثال الفضاء الرقمي، والذي يعد ساحة مفتوحة للجميع، حيث يمكن لأي شخص أن يكتب أو يعلّق أو يُصدر أحكامًا حتى في أدق المواضيع كالصحة، والدين، والسياسة، والاقتصاد، وهنا تكمن الخطورة. فكم من شائعة بدأت بتغريدة؟ وكم من معلومة مغلوطة أدت إلى أزمة؟
أما في الحياة اليومية، فكثيرًا ما نسمع آراءً في المجالس أو الأحاديث العامة من أشخاص يتحدثون بثقة في مجالات لم يدرسوها، وكأنهم خبراء بها، فتجد من يصف دواءً، أو يحلل موقفًا سياسيًا، أو يُشخّص حالة نفسية، دون أي خلفية علمية، فمن المحزن جدا أن يكون هؤلاء الأشخاص بيننا.
أما عن بيئة العمل فالموظف الذي يتحدث عن قرارات إدارية دون فهم، أو ينتقد سياسات دون تحليل منطقي، قد يسبب الإرباك وينشر السلبية بكل مكان ، فمن المهم جدا أن يعرف الشخص متى تنتهي حدوده ليتوقف حينها.
وقال رسول الله ﷺ: “كفى بالمرء كذبًا أن يُحدّث بكل ما سمع”، وهذا الحديث الشريف يُجسد روح المثل: لا تتحدث إلا بما تعلم، ولا تردد إلا ما تثق بصدقه، وهو مبدأ أخلاقي رفيع يحث على الصدق والتحري.
هناك أسبابا كثيرة للهرف دون معرفة، فالكثير يرغب في الظهور والتميز، التقليد الاجتماعي أو ضغط المجموعة، الجهل المركب (وهم المعرفة)، عدم التمييز بين الرأي والمعلومة، الثقة الزائدة بالنفس أو الغرور.
أما عن النتائج السلبية للهرف تتمثل بنشر الجهل والشائعات، الإساءة للآخرين ، ضياع الحقيقة وسط الزيف والتشكيك، تشويه سمعة أشخاص أو مؤسسات، إضعاف ثقة المجتمع بالمصادر الحقيقية.
إن مقولة “لا تهرف بما لا تعرف” ليست مجرد نصيحة، بل هي أسلوب حياة، في زمن امتلأ بالضجيج المعلوماتي، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تحكيم العقل، والتحقق من كل كلمة قبل أن نطلقها، فالسكوت في مواضع الجهل حكمة، والصمت عن ما لا نعلمه علم، ودعونا نعيد لهذه القاعدة مكانتها، ونعلّمها للأجيال، ليكون حديثنا مبنيًا على علم، ونقاشاتنا قائمة على فهم، وكلامنا مرآة لعقولنا لا مجرد صدى لأهوائنا.