كافة الحقوق محفوظة © 2021.
بيب غوارديولا مدرب يصنع المجد في الملاعب ويمنح ضمير العالم صوتاً جديداً

كتب _أ.د.زياد محمد ارميلي ..أستاذ جامعي _ كلية علوم الرياضة الجامعة الاردنية
لا يعد بيب غوارديولا واحدا من أكثر المدربين نجاحا في تاريخ كرة القدم فحسب، بل بات نموذجا نادرا لقيادة تجمع بين العبقرية الرياضية والالتزام الأخلاقي. فمنذ أن ظهر مدرباً شابا مع برشلونة، مرورا بتجربته مع بايرن ميونخ، وصولًا إلى ذروة مسيرته مع مانشستر سيتي، صنع الرجل إرثا كرويا استثنائيا تجاوز في أثره حدود البطولات. أكثر من سبعة وثلاثين لقبا في مختلف المسابقات الدولية والمحلية تضعه في مصاف أعظم المدربين في عصرنا الحديث، لكن ما يميزه حقا ليس عدد الكؤوس، بل قدرته على أن يكون إنسانًا قبل أن يكون رجل خطوط وتكتيك.
فغوارديولا، الذي بنى فلسفة كروية تقوم على احترام اللعبة وتطوير الإنسان قبل اللاعب، لم ينفصل يومًا عن قضايا العالم، ولم يتردد في التعبير عن ضميره وسط ضجيج الرياضة العالمية. وفي السنوات الأخيرة، برز موقفه الإنساني الواضح تجاه القضية الفلسطينية، ولا سيما ما تتعرض له غزة من قتل وتدمير وتشريد. فبينما اختار كثيرون الصمت، عبًر غوارديولا بوضوح عن وجعه مما يشاهده العالم كل يوم، مؤكدًا أن ما يحدث في غزة ليس شأنا سياسيا ضيقا، بل مأساة إنسانية يجب أن تغيّر نظرة العالم إلى معنى العدالة.
في أكثر من مناسبة، صرّح غوارديولا بأن “العالم ترك فلسطين وحدها”، جملة بسيطة في ظاهرها لكنها ثقيلة في مضمونها، صادرة عن شخصية رياضية عالمية يعرف الجميع وزن كلمتها. لم يتردّد في وصف ما يجري بأنه مجزرة لا يمكن تبريرها، وسأل علنا: كيف يمكن لأي ضمير حي أن يغض الطرف عمّا يحدث؟ وفي خطاب منحه فيه إحدى الجامعات البريطانية درجة الدكتوراه الفخرية، وقف المدرب الإسباني ليقول إن ما يحدث في غزة “يؤلم جسده كله”، ليتحوّل الحدث الأكاديمي إلى موقف أخلاقي يلامس القلوب أكثر مما يلامس السجلات الجامعية.
ما يلفت في موقف غوارديولا أنه ليس ردّة فعل عاطفية عابرة، بل خط ثابت في سلوك الرجل ومحيطه. فقد ظهرت ابنته ماريا وهي ترفع الكوفية الفلسطينية في الملاعب الأوروبية، مشهد حمل رمزية قوية أكّد أن الموقف عائلي قبل أن يكون إعلاميًا. كما دعا غوارديولا إلى حضور المباريات الرمزية التي تجمع منتخب كتالونيا بفلسطين قائلاً إن فلسطين تحتاج أن تشعر بأن العالم لا يزال يفكر بها، وأن التضامن ليس شعارا بل فعلًا يجب أن يترجم إلى حضور وضغط ووعي.
ولم يتوقف عند حدود التعاطف، بل انتقد بجرأة أداء كثير من القادة العالميين، مشيرا إلى أن بعضهم يسعى للبقاء في السلطة أكثر من سعيه لحماية الأبرياء. وهو موقف نادر في الوسط الرياضي الذي كثيرًا ما يتجنب الاقتراب من الملفات ذات الحساسية السياسية، إلا أن غوارديولا اختار أن يكون صوتا لمن لا صوت لهم، مؤكدا أن الإنسانية لا تحتاج إذنا من أحد.
إن قوة تأثير موقفه لا تأتي من كونه مدربا مشهورا فحسب، بل من كون صوته يصل إلى جمهور كرة القدم حول العالم، وهو جمهور يعد الأكبر والأوسع انتشارًا. وعندما يصدر من غوارديولا موقف أخلاقي واضح، فهو يتحوّل إلى رسالة موجهة لملايين الشباب الذين يرون في الرياضة لغة عالمية تتجاوز الحدود والانتماءات. إن كلماته عن فلسطين وغزة أسهمت في دفع كثير من المتابعين للتساؤل والتفكير والبحث، وربما إعادة النظر في الصورة التي رسمتها السياسة والإعلام طويلا.
هكذا يمزج غوارديولا بين جمال اللعبة وصدق الموقف، بين الملعب والإنسان، وبين النجومية والمسؤولية الأخلاقية. وهو بذلك يقدّم للعالم نموذجا جديدًا للرياضي المثقف، الذي لا يكتفي بصنع الانتصارات، بل يسعى لأن يصنع أثرًا إنسانيًا يليق بمكانته. وفي زمن تتزايد فيه المآسي وتنخفض فيه الأصوات الحرة، يصبح موقف غوارديولا تجاه فلسطين شهادة أخلاقية مهمة، وصرخة ضمير تدعو العالم إلى عدم ترك غزة وحدها، وإلى الوقوف مع الحق مهما كانت كلفته.
